..ولان النظام في لبنان قد استولد قيصرياً عشية وضعه تحت الانتداب الفرنسي، بعد الحرب العالمية الاولى، فلا علاقة له بـ”الشعب” الذي لم يكن يملك ترف رفضه، خصوصاً وقد كانت “الامة العربية” مبعثرة، تعاني الذل والاضطهاد من الاحتلالين، العثماني القديم، والفرنسي ـ البريطاني الجديد الذي فصل لبنان تماماً عن سوريا، بعدما اعاد صياغة المتصرفية.. كما فصل الاردن من سوريا وعنها ليعطيها مع فلسطين والعراق لبريطانيا العظمى.
ولقد كانت اول الثمار المسمومة لهذا التقسيم بالأمر “وعد بلفور” الذي اعطى فيه من لا يملك، فلسطين، لمن لا يستحق، الحركة الصهيونية.
من هنا فليست مبالغة أن يقال أن “الكيان اللبناني” كان “البروفة” للكيان الاسرائيلي في فلسطين: كلاهما ناتج اهداف استعمارية معلنة بتفتيت هذه الارض العربية، وزرع “مانع” بشري وجغرافي محصن بالاستعمار (بريطانيا، بالأساس، وفرنسياً) بالتالي، في قلب المشرق العربي.
من باب الاستذكار التاريخي (المتأخر) يمكن القول الآن: أن فشل دولة الوحدة العربية، التي اقامتها الارادة الشعبية في كل من مصر وسوريا في مثل هذه الايام من 1958، انما كانت له اسباب عديدة لكن اخطرها عدم التواصل البري بين العاصمتين الرائدتين للعمل القومي..
.. والسبب الجغرافي كما هو واضح، ومنع التواصل البري بين مصر وسوريا، وبالتالي ضعف التواصل الانساني والمصلحي المباشر، كانا بين الاسباب المباشرة لاستمرار حال من “الغربة” بين الشعبين المصري والسوري.. من دون أن ننسى دور القوى الاجنبية التي اسلمت قيادتها، آنذاك، للولايات المتحدة الاميركية… خصوصاً بعد “الثورة” في لبنان في النصف الاول من 1958، ثم ثورة العراق العظيمة بقيادة عبد الكريم قاسم والتي انهت الحكم الملكي في ارض الرافدين.
في ظل هذه التطورات انزل الاسطول السادس بعض قواته في لبنان، تحوطاً، بعد الثورة في العراق مباشرة، بينما الثورة الشعبية تنهي عهد كميل شمعون، لترفع اللواء فؤاد شهاب إلى سدة الرئاسة.. فتكون بين اولى خطواته اللقاء مع “رئيس الجمهورية العربية المتحدة” عند الحدود اللبنانية ـ السورية، ليكون عهد جديد بأفق مفتوح على الاخوة، حتى نجاح المؤامرة في فك الوحدة بفصل سوريا عن مصر، وضرب الحلم الوحودي، وتكريس واقع الانفصال الذي يسهل تحويله إلى عداء بين الاخوة العرب.. لا سيما بعدما بات النفط، ومن بعده الغاز، بين العناصر المؤثرة جداً في “خلق” الدول، وفي تمكين الاضعف الغني بالكبير الفقير!
على اختلاف الايام، وبرغم التبدلات والتحولات السياسية في المشرق العربي بقي الكيان في لبنان عصياً على التغيير من داخله، واقوى من أن تسقطه دول المحيط العربي… ولعل الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد ادرك ببصيرته هذا الواقع فاكتفى باللقاء المباشر مع الرئيس فؤاد شهاب، وبأن تكون بيروت عاصمة الدعوة والاعلام افضل أن اجبار لبنان على الدخول في “دولة الوحدة”.. ربما لإدراك الرئيس عبد الناصر مدى قوة هذا النظام الطائفي الذي اقامته مصالح الاستعمار الغربي، 1920، والتي ما تزال ترعاه وتحميه من “مخاطر” الوحدة العربية او الاتحاد، كما من مخاطر الاشتراكية وبالأحرى الشيوعية ليكون “حصان طرواده” لمصالحها في المنطقة.. ولا يهم أن يكون المتحكم بهذا الكيان فرنسياً او بريطانياً، ومن باب اولى اميركيا..
المهم أن يكون “في العرب” من دون أن يكون سياسيا منهم، وفي الغرب، من دون أن يكون جغرافيا فيه، فيظل كما هو الآن ـ ودائماً ـ بين بين!