لم نصل بعد الى نهاية الأسئلة، ولا تجرأنا على طرح اسئلة جديدة. الظن الغالب، هو أن الاسئلة السياسية كافية وفائضة. السياسة هي الأب المريض للجسد اللبناني المفتت. وإذا ما طرح سؤال، أجيب عليه بالسياسة، وكأنه لم يجب، ولم يضف على ما قد قيل وما يقال وما سيقال. الاعلام يجتر المشهد المعاد والمأزوم والكارثي. السياسيون رابضون في مواقعهم، ويستأسدون، ويناوشون، ولا يتجرأون، بعد على العنف…
الأسئلة كلها قد طرحت من زمان، علناً، بدقة أحيانا، وبفوضى أحياناً أخرى كثيرة. لماذا لبنان هكذا؟ ولقد أجيب عليه إجابات متناقضة. أو، لماذا لا نتقيد بالدستور؟ كذلك. الإجابات متعددة واتهامية. أين هو الميثاق الوطني؟ نادراً من يتجرأ على القول انه مات؟ هل لا زال صالحاً لبنان بجناحيه؟ طبعاً لا. ماذا نفعل بالجناح الثالث والجناح الرابع، وهلم جراً. إلى آخر الأسئلة الوجودية التي بلغت الحد النهائي للوجود: لماذا انتحروا لبنان جميعهم؟ لا جواب. وكأن احداً منهم قد سمع. لا أحد ابداً. أسهل الاجوبة، لقد نحره من مد يده إلى الخارج، واستجلب القوى الاقليمية والدولية إلى لبنان… كل هذا قد قيل، والحق مع الجميع، وعلى الجميع طبعاً.
أود أن اضيف بعض الاسئلة السهلة، ومنها؟ هل يعرف اللبنانيون بعضهم بعضاً؟ ماذا يعرف الماروني (صاحب حق الملكية الأول، بجناية ولادة لبنان الحالي) عن السني (الذي أرغم على الالتحاق بالكيان، مقابل حفنة من الحصص)؟ وهل يعرف السني الماروني، أي هل يعرف هويته وميوله التي حبل بها زمن “التعايش” المر مع امواج الفتوحات الاسلامية.
هذا السؤال، يقتضي الجواب عليه أن نوغل به في دراسة الشخصية المارونية، التي يعود تاريخ انبنائها إلى مئات السنين، كما يقتضي البحث عن الاسباب التي دعت الموارنة إلى ادعاء لبنان الازلي السرمدي الفينيقي؟ كما يلزم أن يجاب بصراحة لماذا عقد زواج ماروني، بين الموارنة وسادة الحماية الاجنبية، الفرنسية غالباً، ما دعا الطائفة الدرزية إلى أن ترتمي في احضان بريطانيا، غريم فرنسا، في السباق المحموم على قضم أطراف السلطنة العثمانية المتداعية، والتي اذاقت الموارنة والاقليات السنية، ثم اذاقت الشعوب العربية، السنية والشيعية، مكاره الظلم، وشظف الوجود وجحيم الاقامة؟
هذا السؤال، يفتح الباب إلى مكونات الاسس التي بلورت الشخصية المارونية، التي رأت سنداً لها في الغرب المسيحي، وهو يومذاك، لم يكن مسيحياً بل استعمارياً. الماروني الذي لجأ إلى الجبال، وعاش في عزلة، طالباً الحماية، من هذا العابر او من ذاك المغادر من قبل. هذا الماروني وصل إلى غايته، ليكون سعيداً في بلده، لا ينكل فيه في الجبل، في الزمن الشهابي ولا في الزمن المصري ولا في الأزمنة العثمانية… الماروني، الذي تمسك بمارونيته، تمسك ايضاً ببقعة ارض تحميه ويحميها، خوفاً من مجاعة، ذاق فيها الحرمان، وعرف فيها الانسحاق، ومذلة التسول ومصير الموت.
هذا الماروني، لا يجد اطمئنانا في بيئة دينية اسلامية. ما قيل في اسباب توليد او استيلاد لبنان، موجود في الكتب التي أرَّخت بدايات هذا الكيان.فعودوا اليها.
سؤال آخر: هل يعرف الماروني الشيعي. اكيد انه يعرفه من خلال خرافاته الشعبية وارث العداء والاستعداء، ومصاعب الجيرة الجغرافية و”من ليس مثلي هو عدوي”. الذاكرة المارونية معبأة. ترسم صورة للشيعي، بطريقة شنيعة وبنظرة دونية على الاغلب… هكذا ترسم الطوائف صوراً مشوهة للطوائف الأخرى. وعليه، فبين الشيعة والغرب، الموارنة مع الغرب، لا مع التشيع السياسي والاجتماعي.
هل يعرف الدرزي الماروني؟ طبعاً طبعاً. معرفة على حد السيف. معرفة دموية دامسة. ارث من المذابح والتهجير. ملاحم كر وفر وقتل ونزوح. جبل لبنان، على مدى قرن ونصف، كان، برغم الاجتياحات والامارات التابعة، كان مسرحاً لفتن إبادية. اكتسى جبل لبنان، ومتفرعاته في الاقليم، بالصراع الدائم، والهدنات الكاذبة. غير جبل لبنان مواقع الطوائف فيه، استناداً إلى ما اسفرت عليه المذابح، والمذابح المتبادلة. مجزرة في دير القمر، ضد الموارنة، يقابلها قتل وتدمير في مناطق الاقلية الدرزية.
هل مات هذا الإرث اللعين؟ لا وألف لا. الذاكرة حاضرة لتعيد انتاج المجازر. في الحرب اللبنانية – الاقليمية ما بين 75 و90، حلت لعنة التهجير على الموارنة في الجبل، فقتلوا وأجلوا. الدامور شاهد. لم يبق فيها يومها غير المقابر. إلى آخره وآخر ماروني في الشوف. وهذا التهجير سبقه تهجير ماروني، للشيعة من المناطق الشرقية في بيروت… النبعة كانت ضحية إلى جانب الضحايا في المخيمات الفلسطينية، وليس انتهاء في صبرا وشاتيلا، مجزرة العصر التي ارتكبها موارنة من نوع اسرائيلي، ولقد كانوا كثرة كثيرة مدججة بالحقد التاريخي والنزعة الاستئصالية.
تاريخ مفخخ ومدجج واستئصالي.
سؤال آخر: هل يعرف الماروني السني؟ كمقدمة. لا بد من التأكيد، أن الشيعي يعرف السني، منذ السقيفة إلى ما بعد الخمينية. طبيعي جداً ذلك. أرث عدواني متبادل. انما، يضاف اليه انه حالياً، ذو مرارة تشبه الجائحة، لأن العداء السني – الشيعي، يشرخ بلاد المسلمين، من المحيط إلى الخليج، ولا ضرورة للشرح. الاحداث اليومية شاهد، ولحظة التأسيس للتشييع والتسنن كافية لفهم العداوة المستدامة بين الشقيقين اللدودين.
لنعد إلى السؤال، هل يعرف الماروني السني؟
انه لا يعرفه طبعاً. انما رسم له صورة حقيقية سياسياً. فهو ليس لبنانيا كالماروني ابداً. به “لوثة ” عروبية. وهذا فخر ينتسب اليه السني منذ اواخر القرن التاسع عشر. كان السني مستطيبا الاقامة في ظل الخلافة. لما اندثرت الخلافة، بقرار من اتاتورك العلماني الفائق، وجد السنة أنفسهم في العراء. طول عمرهم مستقرون على ايمان يظللهم، وسياسة ترضيهم، لولا بعض المعارك السياسية. كيف قبل هؤلاء، أن يرتضوا بلبنان، وقد ضموا اليه عنوة؟ الجواب: دخلوا لبنان، على أن يكونوا وجه لبنان العربي، لذلك، اجتازوا الحدود وعبروها إلى مصر عبد الناصر، فيما كان الموارنة في المنعطف الاميركي-الرجعي. ثم مالوا إلى الفلسطيني، وهذا طبيعي، ما سهل على الفلسطيني الدخول إلى لبنان، حتى قيل أن المقاومة الفلسطينية هي جيش المسلمين، وكان ما كان من فتنة وتدمير، بين الطرف السني والطرف الماروني، الذي لجأ إلى اسرائيل، فدخلت بيروت واخضعت مجلس النواب والزم بانتخاب قائداً قتاليا، بشير الجميل، الذي قتل في ما بعد … والحكاية معروفة.
الماروني والشيعي يجب الا يتعجبا من انتقال السنة من الولاء لسوريا، فمصر، ففلسطين، فالسعودية. ذلك، انى اتجهت، تجد السنة في البلاد العربية.
غريب، كيف لا يعرف اللبنانيون تاريخ الدروز. هؤلاء اقلية قلقة، لا بعد اقليميا لها. وعليه، جهدت القيادات الدرزية على حماية نفسها بنفسها. فاعتصمت بالجبال. ولما حاول كمال جنبلاط فرض العلمنة في لبنان، من خلال الثورة، كان يهدف، في ما هدف، الى مواطنة تامة بين ابناء جميع الطوائف، ليصير لبنان مكان اقامة آمن ومسالم بين طوائفه على قاعدة المواطنة..
من المؤكد، ان الطوائف في لبنان لا تعرف تواريخها الماضية. لو كانت تعرف لحدث ما يلي:
أ- يبرّر طائفيا، لماروني ان يكون الحضن العربي ضمانته وحاميه ومطمئنة من مخاوفه المزمنة… الماروني لبناني الاقامة، وغربي الحماية. وهو لبناني اولاً وغربي ثانياً.
ب – يبرر للسني، بناء على شخصيته التاريخية، ان يكون لبناني ثانيا ، وان يكون عروبيا، وناصريا، وسوريا، وفلسطينياً وسعودياً اولاً، هكذا. حبل السرة الديني اقوى من عقد زواج سني- ماروني. ولا يلام السني في ذلك ابداً.
ج – ويبرر للشيعي، من خلال تاريخه ومظلوميته المستدامة، ان يلتحق بلبنان بعد نصف قرن، وان يكون خمينياً وايرانيا ومحتضنا بالكامل، من قبل إيران. الحضن الايراني، لا يتسع لغير الشيعي في معظم الاحيان. وهو، كونه متمسك بالموهبة الايرانية، فهو معها في البحرين واليمن وسوريا والعراق ولبنان… وهلم جرا. يجب الايلام على ذلك. لأنه كذلك. لبنانه ثانياً وإيرانه اولاً.
د- الدروز لهم قاعدة خاصة. ليس عندهم الا لبنان، ويقومون بسياسة الاكروبات، للمحافظة على الوجود. ولا يلام جنبلاط على سياسة الاكروبات، فهو تارة مع وتارة ضد، واحيانا، هو مع وضد واحيانا… حفلة انتقال من ضفة إلى أخرى.
السؤال الاخير يخص العلمانيين؟
ماذا أنتم فاعلون في هكذا كيان وهكذا قوى؟
فكروا: أليس السلام الطائفي، مقدمة للعلمانيين، كي يمارسوا سياستهم، في ظل تفاهم طائفي جديد؟ السلم الطائفي يحرر العلمانيين من العجز والتكرار والفشل.