ليس موت الصديق مجرد خبر مفجع، انه إنذار بالتلاشي، فبعضك يرحل مع رفيق العمر والشريك في الوجع والطرفة والمائدة ولحظات الصفاء.
تُنعى الى نفسك، لأن الميت منك وفيك. لكأنك، فجأة، تفقد يمينك او تسقط من وجهك عينك، او تضمحلّ بعض أحلامك في غدك حين تتهاوى بعض ذكرياتك في أمسك الجميل، وإن كان متخماً بالضنك والعوز المذل.
ويستحيل ان تبقى كاملاً بعد رحيل الصديق، ولا سبيل لأن تستعيد بعضك الذي يذهب بذهابه مخلفاً وراءه قدراً من الفراغ المشرع لمشاعر الغربة والوحشة والخوف من انك ”تتضاءل” في وحدتك، مقترباً من الغرق في مرارة الاحساس بأن لا مكان لك بعد، لأن الذين جاؤوا بعدك يطمحون ومن حقهم ان يأخذوا الأمكنة جميعاً.
يذهب بعضك مع الصديق الراحل، وتفتقد بعضاً من شرعية استمرارك بعده، فهو يأخذ معه بعض احلامك وبعض التمني وبعض الثقة بالنفس والقدرة على توفير بدائل مجدية لكل ما تعترضان، مع الناس، عليه، أليس يحمل بعض فكرك، او تأخذ عنه بعض فكره، ويمدك بشجاعة التحدّي وتقديم النموذج الافضل؟!
* * *
منذ شهور، وأنا ارجئ الحديث ”الشخصي” عن مفكر كبير، وعن انسان متميز، وعن صديق شخصي، اتفقت معه كثيراً واختلفت معه قليلاً، هو الصادق النيهوم.
ولقد زاد من حزني عليه إحساسي بأنه قد ”غدر” بي وبكثيرين مثلي كانوا ينظرون إليه معجبين بطرح الافكار التأسيسية بأسلوب مبسط وجذاب.
فهو واحد من قلة من المفكرين والكتّاب ممن نجحوا في إطلاق حزمة من الافكار النقدية الشجاعة ”لثوابت” في تقاليد الكتابة والنقاش، وفي خرق المحظور وتعريض الموروث السلفي لشمس اليوم والغد، ليس من باب الإدانة بل من باب التحريض على ازالة العفن وتحدّي التحجر الذي يجر العربي خاصة والمسلم عموماً إلى قاع التخلف ويحبسه فيه.
بل لقد تجاوز الصادق النيهوم فاعتبر ان رموز ذلك التيار السلفي المتحجر في قوقعة التفسير المبتسر او المغرض او القاصر للنص، إنما هم خارجون على الإسلام ومتآمرون عليه.
في زيارتي الاولى لطرابلس الغرب، قبل خمس وعشرين سنة تقريباً، كان الكل يتحدث عنه بمزيج من الإعجاب والتهيب والاحترام الاستثنائي، ويسمونه ”الفيلسوف”، فإذا ما لمحه الجمع في ردهة الفندق اندفعوا الى تحيته وكأنما هم يتبركون وتبرق عيونهم بشيء من الاعتزاز بـ”ولد البلاد” الذي يعرفه العالم..
ألا تعرفه؟! عجيب.. انه الصادق!
ولما قرأ صديقي ”مهدي” التساؤل في عيني أردف باستغراب: ليس في ليبيا كلها من لا يعرف الصادق النيهوم. لولا بعض الورع الديني لقلت إنه النبي الجديد!
لم أكن قرأت شيئاً لذلك الكاتب الذي كان أحد أعمدة جريدة ”الحقيقة” وهي التجربة الصحافية الأرقى في ليبيا والتي نجح اصحابها رشاد وإدريس ومحمد الهوني، وبرعاية من قريبهم وزير الاعلام (الملكي آنذاك) أحمد الصالحين الهوني، (صاحب جريدة ”العرب” التي تصدر في لندن الآن)، في إطلاقها اواخر الستينيات مازجين فيها بين المدرستين المصرية (أخبار اليوم وأسلوب مصطفى وعلي أمين) واللبنانية التي كانت في طور التبلور.
كانت ثورة معمر القذافي تحبو في منتصف عامها الثاني وهي في حيرة من امرها بعدما افتقدت المنارة الهادية برحيل جمال عبد الناصر وتعثر أنور السادات في مغامراته لإلغاء التاريخ الذي كان، ومن موقع الخلف والمؤتمن على خط السلف الصلح.
الى أين من هنا، وقد ”غرّبت” القاهرة متخلية عن دور القائد والرائد، ملقية أثقالها هي ايضاً على كاهل المثقلين بأسباب القلق والشعور باليتم وافتقاد الطريق؟!
طرابلس ليست القاهرة، ومعمر ليس جمال عبد الناصر، وليبيا ليست مشرقية تماماً ولا هي مغربية تماماً، ثم ان تجربتها السياسية ضحلة، وعلاقتها بالثقافة ناشئة لم تتجذر بعد، والأفق مكتظ بالاسئلة، والتجربة القدوة تتهاوى في بلد المنشأ وتفقد جدارتها بأن تبقى وتستمر فكيف بأن تعمم وتعتمد بحرفيتها؟!
القومية، الاشتراكية، الماركسية، الإسلام، الوحدة العربية، الحزب، السلطة، الثورة: كل تلك المفاهيم والقيم كانت في حالة ارتجاج، وكانت ريح السموم قد فتحت الارض للردة والمرتدين.
والتقينا والدهشة ثالثنا: وبهرني بعقله وثقافته وتجربته الغنية ورغبته في ان تظل الثورة اكبر من الثوار، وفي ان يوظف الإيمان والموروث الثقافي والارتباط بالارض لابتداع نظام يخدم الانسان ولا يستخدمه.
كان يرى في ثورة القذافي فرصة تاريخية: هنا تستطيع ان تبدأ من الصفر، متخففاً من أثقال الارث المهجن بالمنقول، كاريكاتورياً، او بالشكل فقط، من تجارب الآخرين.
وأذهلتني البساطة في أفكاره الناسفة للمفاهيم السائدة والتي سرعان ما تبلورت في ما بعد في إنجازات ثقافية مؤسِّسة لفكر جديد، لتنشئة جديدة، للغة جديدة، لإنسان بوعي جديد، وبينها على سبيل المثال المتسرع وليس الحصر:
* لم يكن وصول كريستوف كولومبس الى القارة الجديدة (اميركا) اكتشافاً، بل هي عملية استعمارية بشعة بمجازرها وسيطرتها على ارض اهلها فيها، لهم ثقافتهم ولهم تاريخهم ولهم منجزاتهم الحضارية.. لكن الاستعمار الجديد كان يبرر نفسه بإبادة كل ما يتصل بحضارة اهلها فارضاً عليهم منطقه وقيمه، لينتهي بإبادتهم كبشر، ما عدا ”عينة” معدودة ما زال يستخدمها للتدليل على مدى تقدمه هو..
* عندما توقف العرب عند جبل طارق، ممتنعين عن ركوب المحيط، كانوا كمن يحكم على نفسه بالخروج من العصر (الآتي)، فالذين حكموا العالم وفرضوا عليه حضارتهم من بعد كانوا اولئك الذين اقتحموا المحيط الاطلسي فوصلوا الى الجانب الغربي من افريقيا، ثم الى المحيط الهندي فجنوب شرق آسيا، فإلى اوستراليا، وبالطبع الى الاميركيتين… وبات لهم ”العالم الجديد”، وفرضوا من ثم حضارتهم وقيمهم وسيطرتهم بقوة السيف.. ثم بقوة التقدم!
* عندما صادر السلطان (الاسلامي) الجامع وأخرج منه الناس محولاً إياه الى مجرد مكان للسجود (والصلاة) ومنبر للدعاء للسلطان، وتم تزوير الوظيفة السياسية ليوم الجمعة والصلاة الجامعة، كان الإسلام يقع في الأسر، فيخرجه ”الامبراطور الجديد” من السلطة ليفنرد بها وليوظفها ضد الاسلام والمسلمين.
هذه إشارات سريعة الى أفكار اولية سرعان ما تبلورت وانطلق الصادق النيهوم يكتبها مبشراً، متفائلاً بأن ”ثورة معمر” ستوفر له المدى الكافي ليعيد كتابة التاريخ مصححاً، لاغياً منه أطنان الاكاذيب وعمليات التزوير ”النظامي”.
لم تكن ثمة اسوار، بعد، تفصل معمر القذافي عن الناس، وكانت حيرة هذا الضابط الشاب تتزايد مع تعاظم مسؤولياته التي نمّاها فيه غياب الآخرين (الكبار) أحياناً، ونفاق الآخرين (الصغار) غالباً.
لكن القذافي كان صادقاً في قلقه وفي بحثه المضطرم عن اليقين.
كان، كأي ليبي، مسلماً حنيفاً. لكنه لم يكن ليؤمن بالحاكمين باسم الإسلام، ولم يكن ليصدق الاحكام التي تصدر باسم الاسلام.
ولعله حين بدأ دعوته الى ”النظرية العالمية الثالثة” كان يضمر انها ستكون ثورة تجديد الإسلام، او الثورة المجددة بالاسلام فيها، بافتراض ان النظريتين السابقتين هما مزيج من الثورات في المسيحية ثم الثورات عليها مع دور متميز لليهود فيها جميعاً، بدءاً بحركة الاصلاح الديني باسم البروتستانتية وانتهاءً بحركة تغيير الواقع الاجتماعي الاقتصادي السياسي في الكون اجمع تحت لافتة الشيوعية.
وكان اللقاء حتمياً بين الصادق النيهوم، المختزن رؤيا تاريخية وثقافة عصرية وتجربة احتكاك وتواصل مع الغرب، وبين معمر القذافي المتشوق الى التغيير، والناظر الى نفسه على انه اكبر من بلاده الصغيرة، المتوجس من الغرب وغير المطمئن الى الشرق، الثائر على المسلمين باسم الإسلام وعلى الإسلام التقليدي إسلام المؤسسة الحاكمة باسم جموع المسلمين المضطهدين الآن باسم الاسلام وتحت الرايات المزركشة لحكامهم الفاسقين.
أخذ القذافي عن الصادق الكثير. لكنه كان انتقائياً ، في ما يأخذ، ثم انه كان يعدل ويضيف بحيث تغدو الفكرة غير ما كانت عليه او غير ما كان يريد منها صاحبها الاصلي.
وكان الصادق النيهوم حذراً بما يكفي حتى لا يندمج في ”نظام القذافي” ولا يذوب فيه. بل كان في قلقه المضني وفي بحثه الدؤوب عن الحقيقة وإعادة تظهيرها وتقديمها كاملة للناس، بحاجة إلى أن يبقى خارج ليبيا، وخارج دنيا العرب جميعاً.
وهكذا أصر على ان يبقى في سويسرا. هناك يكتب، وهناك يجمع الكتّاب والمفكرين والمؤرخين والدارسين لإصدار بعض الموسوعات الطموحة، ومن هناك ينشر.
وكالعادة، مر الزمان على الحماسة فأطفأها، وتغلب الخاص على العام، وهُزم الحاكم الثائر، فإذا مشروعات الصادق النيهوم الجليلة في مهب الريح.
ظل الصادق يكتب، لكن الأحلام في التغيير تهاوت.
وظل يجيء الى طرابلس، لكن لقاءاته مع معمر القذافي تباعدت واتسعت المسافة الفاصلة بينهما حتى لم يعد أحدهما يسمع الآخر.
* * *
يوم الثلاثاء في 15 تشرين الثاني 1994 تُوفي الصادق النيهوم في جنيف.
كان عمره 57 سنة، أما إنتاجه فيكفي لإحداث ثورة فكرية شاملة في مشارق الارض العربية الاسلامية ومغاربها.
ومؤكد ان الصادق النيهوم ينتظرنا الآن في غدنا.
هل من دليل اصدق من ان كتبه تُصادَر وأن افكاره تكافَح وأن الموسوعات التي انتجها بجهد نخبة من الدارسين والباحثين قد ”أُخفيت” حتى لا نتعرف الى ”تاريخنا“ او الى ”بهجة المعرفة”؟!
ليس هذا رثاءً متأخراً لمفكر كبير سرقه منا العجز عن مقاومة اليأس، او الشعور بالخذلان.
إنها دعوة لاستحضاره، بإنتاجه الكامل، من جديد.