صنع “الشعب” اللبناني وحدته في شوارع مدنه والقصبات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب فأقصى البقاع.
ارتفع فوق العصبيات الطائفية والمذهبية، وتوحدت جماهيره في مختلف المناطق بمدنها والبلدات والقرى والدساكر.، ونزلت جماهيره موحدة رافعة الصوت برفض الظلم وسياسة الافقار ومحاباة الاثرياء واصحاب البنوك على حساب الشعب الذي يزداد فقره وعجزه عن إعالة أهله وعائلته، يوماً بعد يوم بل ساعة بعد ساعة.. إذا ما تذكرنا الذعر الذي أشاعته عصابات العملة الصعبة بتحريك سعر الدولار صعوداً ليزداد هبوط سعر الليرة نحو الهاوية، بكل ما تعنيه لمن لم يعرف في حياته عملة غيرها، وكان يعتبرها محصنة أكثر من الدولار والاسترليني.
كان الشعب، الذي توحد أخيراً، يجهر برفض القيادات جميعاً، من أعلى سلم صاحب الفخامة حتى أصحاب الدولة والمعالي والسعادة… ولو انه عثر بأحدهم لصب جام غضبه عليه..
وحين خرج رئيس الحكومة سعد الحريري على الشعب سمعه المنتشرون في ساحات بيروت وطرابلس وصيدا وصور والنبطية والدامور والهري ـ شكا، كما في زغرتا ومدن الكورة والمنية والقبيات وقرى عكار وسائر الدساكر وصولاً إلى الحدود مع سوريا.. سمعوه بانتباه ولكنه لم يفعل غير التظلم والتشكي ورمي المسؤولية على غيره.
كانت التظاهرة تعبر عن تمنياتها اكثر مما عن قدراتها، مع أن حشودها في مختلف المناطق تجاوزت المائة الف متظاهر، وكان لصبايا الورد ولشباب الامل الواعد دور مؤثر فيها يعبر عن خوفه على غده ورفضه أن يترك بلاده بحثاً عن الدولار مع الاذلال ومهانة الغربة في البلاد التي يرفض سياستها الاستعمارية وتواطؤها العلني مع العدو الاسرائيلي..
ومنذ اللحظة الأولى، وعلى امتداد الساعات المبهرة في متابعة حشود المتظاهرين في العاصمة وسائر المناطق، كانت تتزايد مخاوفي من لحظة الدفع بالمندسين إلى تخريب المشهد الجميل بل النادر في تاريخ العمل الشعبي: لا شعارات ولا اعلام لأحزاب، لا هتافات ولا تحرشات تخريبية ذات منحى طائفي او مذهبي..
وبرغم أن الاكثرية الساحقة من المشاركين في التظاهرات والتي شملت مختلف المناطق، كانوا من الشباب وصبايا الورد إلا أن الكهول شاركوا بهمة الشباب، وكانوا ابلغ في التعبير عن وجعهم والتمسك بالأمل في التغيير وحقهم في أن ينبهوا من مخادعة السلطة ومحاولة التفريق بين المتظاهرين سواء على قاعدة طائفية او مذهبية او من خلال التصارع بين شعارات الاحزاب والقوى المشاركة في المسيرات والتظاهر.
من أقصى الشمال إلى اقصى الجنوب، من الجبل إلى البقاع شرقاً وغرباً انطلقت التظاهرات والمسيرات يجللها الغضب ولكنها بقيت سلمية، لم يستدرجها استفزاز إلى الرد الغاضب، ولم تندفع إلى احراق الممتلكات، حتى مباني المصارف والشركات التي اتهموها بالمتاجرة بحقوق الناس وعرقهم، وفي بعض الاحيان بدمائهم.
انها لحظة مفرحة ومبشرة بغدٍ أفضل، برغم محاولات القمع ودس المخربين بين المتظاهرين.
كان يوم الجمعة طاهراً مطهراً.. مشى المتظاهرون في الشوارع المحيطة بساحة رياض الصلح، واندفعوا من احياء المدينة والقرى جميعاً إلى ساحلها في الشمال والشرق والشمال والجنوب.
تعرف الناس إلى مدن بعضهم البعض والى قراهم: بعد صيدا صور وجباع والنبطية والقرى المحيطة التي بالكاد يعرف الناس مواقعها على الخريطة، ومن زحلة وضواحيها إلى بعلبك والبلدات المجاورة والهرمل واليمونة وشمسطار والقرى المحيطة، وكذلك في البقاع الغربي كامد اللوز وجب جنين ومشغرة الخ.. اما في الجبل فقد تجمهر الاهالي في ساحات عاليه وبحمدون وفي بعض نواحي المتن كجل الديب والشالوحي، كما في جونيه وجبيل وقراها، وصولاً إلى عروس الشمال طرابلس ومحيطها من البداوي إلى المنية، ومن زغرتا وقراها إلى عكار بمدنها والقرى.
لقد نزل لبنان إلى الشارع.. ومن الصعب أن تعود هذه الجماهير الغاضبة من هذا النظام المهترئ والتي تدفع شبابها إلى الغرب ليس لكي يتعلم فحسب بل ليجد فرصة عمل تساعده على بناء مستقبله الافضل ولو في البعيد البعيد حيث يبيع عرقه وكفاءته لبلاد غريبة لطالما كان يعتبرها “معادية” بسبب دعمها المفتوح للعدو الاسرائيلي.
انه حدث تاريخي: أن تنزل هذه الحشود إلى شوارع المدن والقرى في مختلف المناطق، والى ساحتي رياض الصلح والشهداء وساحات الاشرفية والضاحية الجنوبية بشوارعها جميعاً، وصولاً إلى طريق القصر الجمهوري في بعبدا عبر الحازمية.
كانت التظاهرات السلمية الشاملة والجامعة شهادة لشعب لبنان بالوحدة والتحضر..
لكن عناصر التخريب، مأجورة او عميلة للسلطة بأجهزتها المختلفة سرعان ما نزلت لتشوه المشهد التاريخي الذي سجله الشعب اللبناني بجماهيره التي احتشدت في ساحات بيروت وطرابلس وصيدا وصور والنبطية وزحلة وبعلبك والبلدات المحيطة لترفع صوتها منادية بإسقاط النظام الذي لم ينصفها في أي يوم.
كان واضحاً أن يد التخريب والتشويه امتدت، ليلاً، لتشوه المشهد التاريخي الذي لم تُعرف له مثيلاً الا في لحظات تاريخية فاصلة.
حمى الشعب آماله وتشوقه إلى التغيير بترسيخ وحدته الوطنية التي تجلت أمس في مشهد تاريخي نادر المثال في التحركات الشعبية.
والى الامام نحو غدنا الافضل.