عملت في “السفير” ما بين عامي 1977 و1989، حين كانت الجريدة ملتقى العواصف السياسية والتيارات الفكرية، ونادياً للسياسيين والمثقفين العرب يزورون بيروت ليرووا أخبار مجتمعاتهم وأحلامها وخيباتها.
بدأتُ العمل محرراً في القسم الثقافي ثم رئيساً له بعد استقالة الزميل ابراهيم العريس، وممن زاملتُ في القسم نجاة حرب ومحمد العبدالله وعدنان مدانات وهاديا حيدر وفيصل سلطان ويسري نصرالله وحازم صاغية وحسن داود وعبيدو باشا ومحمد سويد والياس خوري وعباس بيضون وسعدالله ونوس وكاتيا سرور وبيار أبي صعب.
والتحرير في الشأن الثقافي عمل إشكالي في نظر معظم رؤساء تحرير الصحف، فهم يعتبرون العاملين في هذا الشأن أنصاف صحافيين، يعبّرون عن تقديرهم لهم ويفخرون بهم أحياناً لكنهم لا يتخلون عن قناعتهم بتقصير هؤلاء في الصحافة لكونها سعياً نحو الخبر الجديد وخوضاً في دقائق السياسة اليومية. هذا الحكم الظالم يحدث في صحف لبنان التي يعرف أصحابها ورؤساء تحريرها جيداً أن الأدباء هم مؤسسو الصحافة اللبنانية والعربية وكان بعضهم يكتب صحيفته أو مجلته من الألف إلى الياء كما يصححها قبل الطبع. هو حكم ظالم لكنني أعطيه بعض الأسباب التخفيفية لأن الناشطين في مجال الثقافة إبداعاً ونقداً كثيراً ما ينْأَون بأنفسهم عن يوميات السياسة، بل إن بعضهم يحتقر الطبقة السياسية اللبنانية ويرى الاهتمام بها مضيعة للوقت أو سبيلاً إلى الارتهان.
وقد شعرتُ أثناء عملي المديد في “السفير” ببعض التهميش، ربما لأنني لم أنخرط في السجال السياسي (والحربي) الحاد في لبنان، وقد قرئ موقفي على أنه تقصير في فهم أولويات الصراع ولم يُفهم على حقيقته وهي كون شخصيتي تجنح نحو الزهد، وتفضّل الكتابة في الشأن الإنساني على نقد يوميات الحدث الدامية وغير المفهومة بالنسبة إليّ على الأقل، ولم يكن ممكناً آنذاك أن أكتب عن بطولات معينة كنت أراها في العمق مجرد جرائم.
هكذا لم يكتشف رئيس تحرير “السفير” انني صحافي إلاّ عندما رافقته في رحلة عمل إلى سورية حيث قابلنا البطريرك مكسيموس الخامس حكيم، فكتبت مقدمة طويلة للمقابلة “أدهشت” طلال سلمان كما قال لي وأبدى رغبة بأن أنتقل الى القسم السياسي، لكن ذلك لم يحدث لأنني كنتُ أعدّ نفسي للهجرة، ثم غادرت لبنان لأعمل في جريدة “الحياة”.
وفي إطار الثنائية المتعسفة “الثقافي” و “السياسي”، عيّنت إدارة “السفير” ثلاثة مديرين لتحرير القسم لفترات زمنية متقطعة هم حازم صاغية الذي كان في تلك الفترة (1978) معادياً للغرب منتقداً المتغربين بشكل حاد، وأذكر مجادلتي معه حين كتب عموداً طريفاً سخر فيه من شَفَتَي الوزير أسعد رزق قائلاً أنه يحرّكهما كمن يلفظ كلاماً فرنسياً لا عربياً – يمكن هنا اعتبار تحوّلات حازم شهادةً على الزلزال العربي وارتداداته الفكريّة المتعاقِبة -، والمدير الثاني هو الياس خوري الروائي وصاحب الالتزام الثابت وصديق محمود درويش والمقرّب من منظمة التحرير الفلسطينية، أما المدير الثالث فهو الكاتب المسرحي السوري سعدالله ونّوس الذي عمل معنا في فترة متوترة سبقت الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، كان سعدالله صديقاً شخصياً لطلال سلمان ومعارضاً سوريّاً صلباً كما تعبّر مسرحياته الغائصة عميقاً في حساسيات الاجتماع العربي كما تظهر سلوكياً. في تلك الفترة تصاعدت النزعة اللبنانية ووصلت المنظمات الفلسطينية المسلحة إلى طريق مسدود لأسباب معقّدة لا مجال لذكرها هنا. وكنت بدأتُ نشر سلسلة تحقيقات هي أشبه بالمسح الثقافي للبنان مركّزاً في شكل غير مسبوق على الأرياف، وقد بدأنا من شمال لبنان وساهمت الزميلة كاتيا سرور في إعداد هذه التحقيقات كما ساهم آخرون أذكر منهم حسن عبدالله شرف.
فجأة مَنَعَ سعدالله ونّوس متابعة كتابة هذه التحقيقات وحين ناقشته بحدة قال لي: “إن لبنان لا يستحق ثقافياً هذه المساحة من التحقيقات التي لا أعرف متى تنتهي”. وترافق هذا الحدث مع نشر محمود درويش مقالاً ينتقد فيه الحساسية اللبنانية الناهضة لدى المثقفين فردّ عليه الزميل عباس بيضون بمقال تطلّب مني جهداً لإقناع ونّوس بالنشر، لكنه لم يقتنع واكتفى بترك مكتبه قائلاً لي: أنشره على مسؤوليتك، فنشرته ولم أتعرّض للوم أو لسوء في “السفير” أو خارجها، إنما حصد عباس بعض اللوم لبنانياً وعربياً. وانتهت تجربة عملي مع سعدالله ونوس إلى صداقة بيننا استمرت حتى وفاته وتواصلت مع عائلته.
* * *
صدرت “السفير” عام 1974 ولبنان مسرح صدامات عربية-عربية، وكان شأن أحزابه القومية واليسارية المتعاطفة مع المقاومة الفلسطينية يتعزز ويقوى، في الوقت الذي بدأت الطبقة السياسية الحاكمة منذ الاستقلال تتداعى أمام صعود اليمين الجديد المعبّر عنه بالكتائب ومعها ومن بعدها القوات اللبنانية، وأمام الوجود العسكري الفلسطيني الذي اكتسب شرعية بعد اتفاق القاهرة.
استجابت “السفير” للخريطة السياسية الصراعية وتفاعلت على قاعدة مهنية سليمة: الفصل بين الخبر والرأي، وتميّزت مادتها الصحافية بالحيوية، ذلك أن طلال سلمان عمل بذكاء على جذب جيل من الصحافيين تخرّجوا حديثاً من الجامعات، يعملون مع عدد محدود من المهنيين المحترفين، بحيث تطغى حيوية الجيل الجديد على بطء الجيل القديم. وما لبث شباب السفير أن “تعلم” المهنة بسرعة فتولى معظم المناصب القيادية في الجريدة، ومن أبرز هؤلاء: حازم صاغية وجوزف سماحة وباسم السبع، إلى جانب ممثلي الجيل السابق: بلال الحسن ومحمد مشموشي ومصطفى الحسيني.
حدث هذا حين بدأت سائر الصحف تشيخ بفعل عجزها عن اللحاق بالمتغيرات السريعة، ونتيجة القسمة التي أحدثتها الحرب الأهلية في جغرافيا لبنان، قسمة اعتبرتها “السفير” سياسية لا إنسانية، لذلك أذكر تشجيع طلال سلمان لإصراري على تغطية النشاط الثقافي في المناطق حيث تسيطر الكتائب والقوات. كنت ولا أزال أؤمن بعناصر الوحدة في ثقافتنا ومجتمعنا، وقدمت “السفير” صورة عن هذه الوحدة على رغم القتال الدموي.
وفي مجال مشابه شجعتني إدارة “السفير” على الاستمرار في تغطية الأحداث الثقافية المصرية على رغم المقاطعة العربية لنظام أنور السادات بعد كامب ديفيد، فكيف لنا ان نقاطع نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإدوار الخراط إذا أردنا حقاً الاهتمام بالإبداع العربي؟
تعلو “السفير” أو تهبط، بحسب الظروف التي يمر بها لبنان، لكنها تبقى ضرورية للقارئ اللبناني والعربي، ربما لأنها لامست منذ انطلاقتها الحضور العربي في خلايا دولتنا ومجتمعنا.
محمد علي فرحات
الطريق، 192013