البطريرك الراعي لم يراع الحقائق البينة والمؤلمة. أخذ لبنان إلى المستحيل الدولي. نفخ الأزمة من حيث يحلم، لا من حيث يجب. معه، بدا لبنان الواقعي ماض إلى مستقبل خرافي. لبنان هذا، مريض مزمن، بل مدمن ازمات. نادراً ما كان معافى، نادراً ما كان “وطنا لمواطنيه”. هو ممر لغيره ومستقر لبؤس وضياع شعوبه. نادراً ما كان موحداً عن جد. أصيل جداً في خيانة الوطن. انتماءاته الخارجية مزمنة. مذ وُجد وكان، وهو على قارعة المحاور والاقاليم والولاءات. جوانية الكيان خيانية لأبسط مبادئ السيادة. هكذا كان وهو كذلك الآن… تقريباً، ولا مرة كان سيداً مستقلاً حيادياً. ولا مرة كان لبنان لبنانياً فقط. لبنانياته منسجمة مع طوائفياته العابرة لحدوده السيادية والجغرافية. بمعنى آخر، لبنانيته ضئيلة جداً ومؤقتة. يلزم أن لا نصدق صياح البعض، مهما علت رتبته السيادية او الطائفية، بشعارات غير واقعية وغير متوافرة.
مناسبة هذا الكلام، الانزياح التام، من الواقع العيني المأزوم واستسهال الاقامة على قارعة المستحيل الدولي والأممي. مناسبة هذا الكلام، خطبة البطريرك الراعي امام حشد لبناني، مستنفر في عدائه في مواجهة عدائية المعترضين. كلام البطريرك الجامع يقسم ولا يوحد. الادلة كثيرة. لقد أقدم على خطف لبنان من واقعه وخصائصه المنهكة والمزمنة، ورماه على قارعة الدول، التي لا تمت بصلة إلى العصمة والبراءة والمساعدة. تاريخها يشهد عليها، وما أصابنا وأصاب المنطقة على مدى قرن، هو نتاج الطغمة الدولية الفاسدة والعدوانية، ونتاج الطغمة الإقليمية، واللبنانية جزء منها. لقد اشترك الخارج “الآدمي”، مع الداخل “الأزعر”، وأدخلوا المنطقة برمتها في لعبة الدم الدائمة. المنطقة، ونحن منها، كانت تنتقل من أزمة إلى كارثة إلى حروب… ولبنان، جزء منها، على مرأى من مجتمع دولي، مساهم في خراب “البصرة” العربية من المحيط إلى الخليج.
إغراء لبنان بالمجتمع الدولي محفوف بخطر الاستتباع المنفرد لفريق، على حساب فريق، على عداء مع كثير من دول المجتمع الدولي. المجتمع الدولي ليس الدواء، بل أصل الداء. ولا مرة أهدانا هذا المجتمع “صلواته”، بل تفنن في إغرائنا مرة وإرغامنا مراراً وتهديدنا دائماً. لبنان كما هو الآن، وكما كان قبل الآن، لم يكن الابن المدلل للمجتمع الدولي، المستقوي اميركيا وغربيا و… نتائج تدخله كارثية.
أين كنا قبل هذا الانحراف الدولي؟
مذهل هذا الانزياح ومشبوه. منذ اندلاع شرارة الانتفاضة في 17 تشرين، كان لبنان قد وصل إلى القاع، بأسباب داخلية بحتة. لم يكن خارجا من معركة اقليمية او نزاع اقليمي. كان لبنان منقسماً، على جاري عادته، بين محورين. المحوران الاخيران يختصران، بالمحور الايراني، والمحور السعودي-الاميركي. اسرائيل هنا ليست في قاعة الانتظار، بل هي عامل ناشط في تدمير الحياة. أذرعتها العسكرية، المدعومة غربياً، فالتة في الاقليم، ولا أحد يردعها.
اين كان لبنان قبل هذا الانحراف؟
لم تكن معاناة اللبنانيين اقليمية. على الرغم من التأزم الاقليمي البالغ. كانت مأساة لبنان، في حكوماته اللبنانية، في طغمته الطائفية الحاكمة، في سياسات مالية واقتصادية نهًابة وسارقة ولصوصية. كانت ازمة اللبنانيين، بعيدة عن مقتضيات الهم الفلسطيني، وكانت قد وجدت طريقة للتطنيش على التدخل اللبناني المزدوج في سوريا: فريق ينتصر ويدافع ويحارب إلى جانب النظام، وفريق يوالي المعارضة السورية والدول العربية السنية الموالية المنخرطة في الصراع، برعاية اميركية وغربية راغبة في اقتلاع النظام من اساسه… برغم هذا الخندق الكبير بين الاطراف اللبنانية، وجدت الطغمة وسيلة لإدارة شؤون لبنان والتحكم بمفاصله الوزارية ومؤسساته السائبة وامواله المتناقصة.
يا صاحب الغبطة… كان اللبنانيون في 17 تشرين لبنانيين، بمطالب لبنانية، اجتماعية ومالية وسياسية وتربوية. عافوا الطبقة السياسية ومكرها ونهبها وسوق لبنان إلى الهاوية. كان اللبنانيون يطالبون بمحاكمة طغمة مشينة وسارقة ومنتهكة وبلا اخلاق وبلا دين وبلا وطنية. هذا ما كانت عليه الامور، فلماذا هذا الانزياح من مواقع الازمة الحقيقية الجدية، إلى اختراع انقسام كياني؟
مصادر الخطر على لبنان، كانت داخلية مئة بالمئة. لصوص سياسيون احتلوا لبنان ومصوا دمه ولا يزالون. إن هناك شبهة غليظة في هذا الانزياح من الداخل المأزوم، إلى الخارج المشتهى طائفيا وكيانيا، الذي يضيف على التمزق الداخلي تمزقاً اقليميا.
لبنان، يا صاحب الغبطة، امتهن اللصوصية منذ ما بعد الطائف. لقد مارست الطغمة الميليشياوية والمالية والمخادعة للأغراض السورية، السبعة وذمتها. ثلاثون عاماً من ثقافة الفساد التامة. لا ثقافة توازيها. صمت المرجعيات الدينية مريب. حماية المرجعيات للمرتكبين جريمة. سحب المشكلة اللبنانية من خنادق اللصوصية إلى مشارف الدولية، تشوبه تهمة حماية المرتكبين.
لا ننفي أن سلاح “حزب الله” لم يكن مرغوبا فيه منذ بدايته من افرقاء لبنانيين. وهذا امر طبيعي في لبنان. اللبنانيون لا يجمعون، ولم يجمعوا، ولن يجمعوا على موقف واحد في السياسات الخارجية. لبنان مشرَع لكل الرياح التي تهب من كل الجهات. فهو كان غربيا دائماً، وناصريا مرة، وفلسطينياً مرة، واسرائيلياً مرة، وسورياً مراراً، وسعودياً دائماً، وايرانيا كثيراً، و..و..و. لبنان بلد داشر اقليميا ومنهوب داخلياً.
السؤال المشبوه، لماذا، كلما اقترب اللبنانيون من إعلاء مطالب داخلية محضة وواضحة، يُصار إلى تبني مشكلة هي في عمقها اصدق تعبير عن النزوع الطائفي. النزاع الطائفي يطمس المطالب الاجتماعية. وهكذا، عادت حليمة إلى عادتها الداعرة. وكأن شيئاً لم يكن. صارت المشكلة راهنا، هي في كيفية ايجاد توليفة طائفية لتشكيل حكومة من الطغمة المجرمة ذاتها. أي من رؤساء العصابات الناهبة.
البديل عن المساءلة والمحاكمة والمعاقبة، حدث ويحدث افتعال مشكل حكومي، او تبادل الاتهامات، وتلبيس كل فريق لخصمه وصمة سياسية معيبة. ما هو حدث ويحدث في لبنان، لم يكن نتيجة مشكلة سلاح “حزب الله”، وعلاقته بإيران. فهذا دور خارجي مزمن، أكثر مما هو دور داخلي راهن. المشكلة أن لبنان هذا، مأزوم ومنهوب، منذ بداية تكوينه. أن طبيعة امراض لبنان تكوينية. النهب ليس جديداً ابداً. الجديد هو تنامي حجمه وانتشاره. الطائفية الرهيبة هي قدس اقداس الفساد والظلم وحرمان الناس المرجعية القضائية.
كل المؤسسات اللبنانية، محتلة من زمان، وتنتقل من احتلال طائفي إلى احتلال طائفي منافس. استمرار هذه الحالة، كرس المؤسسات اللبنانية كانتونات منهوبة وناهبة. معروفة خريطة التوزع هذه. مجلس الانماء والاعمار مجلس الجنوب، المجالس والمؤسسات كلها الوزارات المجزية. الفضاء الموزع والمسلوب الارادة…. كل هذا هو صنع الداخل اللبناني، وليس العامل الخارجي.
لصوص لبنان لبنانيون. هذه المعركة التي افتتحها البطريرك، هي معركة دخانية لمنع الرؤيا عن المواجع الحقيقية للشعب اللبناني. والشعب اللبناني، باستثناء كلاب السلطة والطوائف، يريد نظاماً عادلاً، دولة مدنية، قضاء نزيهاً، مالية شفافة، استعادة الاموال المنهوبة، تحريم هذه الطغمة من أن تحكم ومد يدها للمؤسسات الحلوب. الخ.. هذه هي مشكلة لبنان الراهن. وهي ليست مشكلة انتماءات اللبنانيين.
ثم، وهنا الكذب المتمادي: أن لبنان اليوم، هو ضحية الصراع الاقليمي، بين إيران والسعودية وشقيقاتها. هؤلاء يضغطون على وجع لبنان. ليفك قسم من اللبنانيين ارتباطهم الوثيق مع إيران. هذه المشكلة مزمنة.. لكنها لم تكن ترمي بثقلها كما هي راهنا. لأن لبنان بحاجة إلى سيولة (كان قد تم سرقتها) فتدفق من دول الخليج التي قررت أن لا تساعد الا بشروط. وهذا طبيعي ومفهوم. السعودية لا ولن تساعد لبنان، قبل أن يحسم امره مع إيران. هذه معضلة واقعية، ولكن المشكلة الاساس، هي في ما ارتكبه اللبنانيون بحق لبنان. .
مصادر الخطر على لبنان، هي اولا، من اللصوص اللبنانيين. كلهم يعني كلهم، من يسرق ومن يتغاضى ومن يجبن متهم.
ثم، لا بد من السؤال: متى كان لبنان قوياً ليدافع عن نفسه؟
ثم، هل سيصبح قوياً يوما ما، في ظرف دولي متورط بدعم اسرائيل وحلفائه في الخليج ضد إيران؟ ما هذا التخريف. لبنان سيبقى مأزوماً، ولا حل، طالما الصراع الاقليمي محتدم. اما تقوية الجيش، فتلك خبرية مستحيلة. فشعار لبنان كان: لبنان قوي بضعفه.
وهم لبنان القوي واضح. الجيش هو الاضعف ازاء الطوائف وحماياتها ومواقعها القيادية في الجيش تجعله مشاعاً طائفياً. كفانا كذباً…
أما بعد… فماذا عن المؤتمر الدولي والحياد؟
من سيحضر المؤتمر الدولي من اللبنانيين؟ خريطة توزع الخنادق بين الطوائف، تشير إلى أن التراشق مستمر والهوة تتسع. ثم، من سيحضر ولماذا؟ من أجل تأليف حكومة؟ من اجل تغيير نظام؟ من اجل محاسبة المرتكبين؟ من اجل ايجاد صيغة؟ من أجل تعديل النظام؟ من اجل مد يد المساعدة؟ من اجل نزع سلاح “حزب الله”؟ من اجل فك ارتباطه بإيران؟
أين نحن يا جماعة. هذه ليست احلام، بل كوابيس.
ثم، من سيحضر هذا المؤتمر الدولي ومن هم الاقوياء؟ طبعاً، اميركا الأقوى. واميركا متورطة في حروب سوريا، وفي العراق، وفي الخليج، وفي ليبيا، ولم تجد حلاً لأحد. عدا ارتباطها العضوي الذي لا ينفصم بإسرائيل… هل يعقل أن تكون الولايات المتحدة على مسافة واحد بين اسرائيل ولبنان. كلا، ثم ألف كلا.
هناك مشكلة أخيرة، هي مشكلة اللغة ورجال الدين. علينا أن نختار ألفاظنا بأدب ورهافة، كي لا يُساء إلى مقامات طائفية، لها من يحميها ويحبها. نحن ملزمون باحترام آداب السلوك والقول. ولو كان هذا الطرح في بكركي، من قبل أي مرجعية سياسية، لكانت اللغة المستعملة معيبة جداً.
لا نستطيع أن نشكر البطريرك على مسعاه الخطير وغير المجدي معاً، كما لا نستطيع أن نغفر لطغمة الفساد العام، ارتكاباتهم المريعة، التي تحظى بحمايات مبرمة من طوائفها، ورجال الدين فيها.
لبنان في خطر حقيقي؟
طبعاً. ولكنه خطر من داخله. أهله زناته. أهله حولوه إلى سوق نخاسة ومرتع سرقة وموطن فساد.
هذا هو الخطر الحقيقي لا سواه.