على قاعدة “وفيت قسِطكَ للعُلى فنمِ..”، عاد ارهاط الحكام العرب من اجتماع نصرة القدس بالاعتراض على قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب بنقل سفارته من تل ابيب اليها، وهم يستذكرون نشيد نجدتهم القديم: “يا فلسطين جينالك…جينا وجينا جينالك.. جينالك لنشيل احمالك”!
لم ينتبه اصحاب الجلالة والفخامة والسمو، إلى أن دولاً عدة قد سارعت بعد ذلك التصويت المبين، إلى اتخاذ قرار مضاد بنقل مقار سفاراتها من تل ابيب إلى القدس الشريف، في خطوة لا تعني تحقير القرار الأممي وتجاوزه بالتحدي فحسب، بل بالتوكيد على أن واشنطن (التي تحتوي اسرائيل وتحميها وتنصرها على العالمين) لم تتوقف لحظة امام القرار الدولي.. بل انها قد اوعزت إلى بعض الدول التابعة بأن تمضي في تحدي “الارادة الدولية” حتى النهاية، فما قيمة هذه الارادة إن لم تكون واشنطن منطلقها وسندها ومرجعها الأخير؟!
ماذا في الأمر من جديد؟!
إن خزائن الامم المتحدة وملفاتها تحتوي على عشرات القرارات الصادرة عن هيئتها العامة، وعن مجلس الامن فيها، وكلها ينصر اسرائيل على العرب ومن معهم… اولها وأخطرها قرار الاعتراف بالكيان الصهيوني في مجلس الامن، واسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي حظيت بمثل هذا الشرف: أن يعلن الكون (في ما عدا العرب) قيام دولة عادية، مستوردة “شعوبها” من سائر اقطار الدنيا ـ الغرب اساساً ـ، معظمهم لم يكونوا يعرفون أين تقع في الجغرافيا، وأين موقعها في التاريخ، وما هو ماضي هؤلاء الأقوام الآتين من مختلف ارجاء الارض إلى اسطورة توراتية جعلتها المطامع الاستعمارية (المجددة) في أرض العرب دولة مستولدة وطارئة أقوى من مجموع دولهم؟!
لم تقم اسرائيل بالاستجداء والتوسل والوقوف على ابواب الدول تستنخي شهامتهم ونصرتها على من سوف تستولي على اراضيهم بالقوة وبشراء ملوكهم والامراء (كالأمير عبد الله، ابن الشريف حسين) وضباط الجيوش التي لم تكن جاهزة للقتال (كالماريشال حسني الزعيم في سوريا)، او امراء الجيوش التي كان سلاحها يقتل حامليها من الجنود (كما الجيش المصري في حرب 1948)..
قامت اسرائيل بالتخطيط طويل الأمد وتقديم خدمات رجالاتها، وهم بعض أثرى اثرياء العالم، لمن يساعدها على تحقيق حلم العودة إلى ارض الميعاد، التي لم تكن في أي يوم دولة ليهود العالم.
قامت بالإعداد والاستعداد الهادئ والمتواصل وشراء السلاطين والحكام، مسلمين بالأساس ـ كما السلطان العثماني وبابه العالي ـ، وتدريب المقاتلين في جيوش الحلفاء، وشراء ما تيسر من اراضي غير الفلسطينيين في فلسطين (وفيهم باشوات من مصر وبكوات من لبنان وسوريا الخ..) وكذلك من بعض وجهاء فلسطين ذاتها، ممن لم يكن في بالهم أن خلف هذه الصفقات مشروعاً استعمارياً سيغير خريطة المنطقة، وسيشرد شعباً بكامله ليقيم على أنقاض بيوته العريقة وكنائسه ومساجده وهي شهادة التاريخ وبناته دولة عادية تستقوي على أهله الذين كانوا على الدوام أهله.
ماذا يعرف هؤلاء المندوبون ممثلو الدول الذين “منحوا” بأصواتهم القدس لكيان استعماري اقيم بقوة القهر والتواطؤ والخيانة على ارض فلسطين وعلى حساب اهلها الذين كانوا على الدوام اهلها فيها؟
المخزي أن يهلل بعض اهل السلطة في دنيا العرب لهذا “الانتصار” الذي يعادل استكمال الهزيمة، والتي ردت عليه بعض الدول التي كانت صديقة للعرب (مثل دول في اميركا اللاتينية) فقررت ست منها نقل سفاراتها من تل ابيب إلى القدس، في تحد مكشوف للعرب والامم المتحدة ومجلس الامن فيها.. وقد تباهى نتنياهو باستقبال وزير خارجية واحدة من تلك الدول وجلس معه إلى طاولة يوقعان مزيداً من الاتفاقات!
كيف لدول عربية هائلة الغنى أن تودع ارصدتها الفلكية في البنوك الاميركية، وان تشتري كميات مهولة من سندات الخزينة الاميركية، أن تتخذ قراراً بإذلال ذاتها (وأمتها) وإهانة شعوبها بتاريخهم المجيد، ثم تتسول موقفا من قضيتهم المقدسة فيجيئهم التصدي لحقهم قيها، ثم يتبعه الرئيس الاميركي بالتحدي، وهو واثق كل الثقة أن أحدا من هؤلاء الملوك الذين يتلفعون العباءات المقصبة والرؤساء ذوي الالقاب المفخمة لن يجرؤ على “معاتبته”، فكيف بمحاسبته، وهو قد عاد من لدى “كبيرهم” قبل اسابيع بمئات المليارات من الدولارات، عدا الهدايا الثمينة التي قدمت بأريحية نادرة للسيدة عقيلة الرئيس وللسيدة كريمته وزوجها الصهر المبجل؟!
وكيف لإسرائيل أن تتوقف عن مصادرة الاراضي الفلسطينية (التي يفترض نظرياً انها “من حق” السلطة التي لا سلطة لها) طالما أن ليس ثمة من يحاسبها على اعتداءاتها اليومية، بالحديد والنار على الشبان والصبايا الذين لا يملكون غير اصواتهم وقبضاتهم الصغيرة يرفعونها في وجوه جنود الاحتلال وهم يوجهون إليهم البنادق والرشاشات ويطلقون عليهم الرصاص فيقتلون ويجرحون من شاءوا ولا من يحاسب او يعاقب؟!
لقد “أسكرت” الدول العربية ذات العروش والثروات الطائلة بالنصر المعنوي الذي تحقق عبر تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة برفض القرار الاسرائيلي باتخاذ القدس عاصمة لها..
لكن “السكرة” طارت بعد دقائق ومضى الاحتلال الاسرائيلي في تنفيذ مخططه بينما ملوك العرب والرؤساء والامراء مشغولون في قضايا مصيرية أخطر وأجدى مثل تحرير اليمن من شعبها والانشغال عن “داعش” في العراق وعصاباته تدمر مدن الحضارة فيه، وعن “داعش” وشقيقاتها مثل “النصرة” و”احرار الشام” وهي تقتل عواصم المجد الذي كان والذي بات عبئاً ثقيلاً على أكتاف حكام هذا الزمان، يفضل أن يتخلصوا منه حتى لا يظل يذكرهم بصغارتهم!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي