في البدء كانت الكلمة. هي سر الله عند الإنسان. الكلمة يجب أن تظهر. قال له: اقرأ. قال وما أنا بقارئ. قال اقرأ. الكلمة التي يقولها البشر هي جوهرهم. هذه فطرة الإنسان. أخبرنا الأنبياء أنها فطرة الإنسان التي بها خلقه الله على صورته. الكلمة تعبير عن التفكير، عن العقل، عن الروح، عن الإيمان. لا دين من دون كلمة. لا علم من دون كلمة. لا سياسة من دون كلمة. هي جوهر الإنسان. تخاف أنظمتنا العربية من الكلمة. تخاف هذه الأنظمة من جوهر شعبها. ترتعد فرائضها من شعبها. هي في الأساس تنكر شعبها، لأنها لا تريد أن يكون له كلام. متى يتكلّم يقتل. هذا ما حصل. واحد من أتباع النظام قال كلمته. لم يكن ذلك ضد النظام بل لمصلحة السلطة. جريمته أنه تكلّم. لا يهم إذا كان الأمر معارضة أو موالاة. لا يحق له أن يكون معارضة أو موالاة. في كل منهما كلام. الكلام يمكن أن ينتقل من واحد لآخر. هو من الأعوان، لكنه من شعب لا يحق له الكلام.
قال الكلام لصالح النظام. من أنت حتى تتكلّم؟ تكلمت من دون إذن. ارتكب الجريمة الكبرى. الإذن يعني الاعتراف بك. أنت غير موجود. أنت لا توجد إلا بإرادة رب السلطة. هي تقرر وجودك أو عدمه. قررت واختفى الجثمان. قامت الدنيا ولم تقعد. احتار صاحب الأمر. هل يستحق الأمر كل ذلك؟ هل هو أهم من اليمن وسوريا والبحرين وبقية الأمة العربية؟ شعوب لا يُحسب لها حساب، لكن هذا صاحب كلمة. تحيّز الناس في أقاصي الأرض، ربما للمرة الأولى، الى جانب الكلمة. لم يتحيّزوا له لأنه عربي، ولأن النظام في أعلى درجات الاستبداد. احتجّ النظام العالمي لما يعنيه، لأنه يعاني أزمة الكلمة في أرضه. يعاني من الفاشية، والنازية تطل برأسها. والمعلومات الخاطئة تقرر نتائج الانتخابات. وسائل الإعلام الأخرى عندها تذوي. هي في طريق الاضمحلال. وسائل الميديا تزدهر. لا رقيب عليها. معلوماتها الصادقة والزائفة تقرر النتائج. خرج النظام عن السيطرة. خرج العقل من عقاله.
الرقيب في بلادنا ما زال متخلفاً. يمنع ويسمح، يقرأ ولا يفهم. هو يمنع ما لا يفهم. الجمهور يجب أن يقرا ما لا يفهم. يجب أن يقرأ ما يفهمه صاحب السلطة. ما يفهمه صاحب السلطة قليل. بعده عن الكلمة كبعده عن الله. لا يعرف الله. لا يعرف الكلمة. لا يفهمها. صاحب السلطة عندنا مستبد وقاصر الفهم. لا يستطيع أن يكون عادلاً لأنه لا يفهم. قوة بلهاء غاشمة. يجب أن يكون كذلك كي يديره غيره. الفهم والكلمة ما زالا عند غيره. شكل جديد من الاستعمار. ليس بالمال وحده يستعمر الإنسان. الميديا وسيلة أشد ضروة وفعلاً وتأثيراً. كل شيء إلا الخبز. ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. الطبقات الفقيرة جائعة، وبالخبز وحده تحيا. عند الآخرين رأسمالية لا تتعلّم من أخطائها. عندنا استبداد صرف. يرتكب الخطأ ولا يعترف بذلك. الرأسمالية عندهم ديمقراطية لأنها لا تعترف بارتكاباتها. هي مضطرة لذلك. الديمقراطية ليست في العدل والمساواة، بل في إجبار الرأسمالية على الاعتراف بخطاياها. هنا على هذه الأرض، في استبدادنا صاحب السلطة رب ينوب عن سلطة الله. لا يعترف بأخطائه. يعتبر أنه لا يخطئ. إذا اعترف يكون ذلك عند إله السماء. هو يظن أنه يقوم بما تريده السماء. لديه كتلة من رجال الدين الذين يحللون ويمنعون ويقدسون ما لا يستحق. القداسة اكتسبوها من الزعيم المستبد لا من السماء. الدين للناس. صادروا الدين، أهل السلطة ورجال الدين.
تعيش السلطة على اقتطاعات من عمل الناس تُسمى الضرائب. لا تصادر كل عمل الناس. تُصادر بعضه. سلطة هذا الاستبداد صادرت كل شيء. أوهمت الناس أنهم لديهم ثروة. الثروة للسلطة. ثروتهم هي ما في باطن الأرض. هي ركاز. الركاز حسب الشريعة ملك الأمة، ملك الشعب. على يد هذه السلطة تحوّل الى ملكية للعائلة والطبقة العليا.وبالنسبة للدين، حتى الذين يدعون الانتساب إليه خالفوه. صادروا الدين والدنيا. يعرفون دينهم ولا يعترفون. أنزلوا القصاص بصاحب الكلمة وهو واحد منهم. خافوا أن يقترب من الحقيقة. الحقيقة في بلادنا وفي نظام العالم ضحية كبرى. الصحافة تجلب لك الحقائق؛ أو هكذا تدّعي. الميديا تجلب لك الحقائق المفبركة، الكاذبة، التي لا تعبّر إلا عن وجهة نظر المسيطر على الميديا.
لم يكن صدفة أن الجريمة ارتكبت بصفاقة وجلافة قلّ نظيرهما. المرتكبون وسادتهم الذين وجهوا إليهم الأوامر، يعتقدون أنهم أرباب هذه الأرض. كيف لا وقد باركهم أرباب النظام العالمي ووضعوهم في مرتبة التقدم والحداثة. الحداثة يا سيدي هي التقدم في حسن استعمال الكلمة. في حسن استخدام ما منحنا الله. منحنا الكلمة وأشياء أخرى من متاع هذه الدنيا. صادروها جميعاً؛ وزاد اعتدادهم بأنفسهم. مع الجريمة يجري التداول بأمر السلاح. يفتخرون بأن لديهم ما يكفي لدفع ثمن السلاح، وأكثر من ذلك. يفتخرون بأن ما في باطن أرضهم يهدد نظام العالم. يعتقدون أن العالم في يدهم وليس في يد سادة الأرض. احدهم قال لملكهم لا تستطيع البقاء أسبوعاً واحداً من دوننا، وكان يعني ما يقول وهو امبراطور العالم. احتار السادة الصغار. ما على هذا اتفقنا. ما كانت هذه هي الأوامر الموجهة إلينا.
من النعم أن الخلاف بين السلطة والضحية كان هذه المرة حول الكلمة، حول المعنى، لا حول السلطة. خوّنوا ما شئتم لكن لن نتخلى عن حريتنا في أن نقول ونفعل. ولن نُفصح عما يجول في رأسنا إلا عندما نريد. الحرية هي في هذه الإرادة التي تبقى مهما كانت درجات القمع والقسر. لن تحصلوا على حريتنا إلا بإبادتنا.
ما حصل للضحية ما كان صدفة. عدد كبير من الخبراء أُرسلوا لمسرح الجريمة ومعهم مختلف المناشير والآلات لإزالة الضحية، وكأن شيئاً لم يكن. يفصح الأمر عن عدة أمور تتعلّق بالحاكم الذي أعطى الأمر.
أولاً أنه جبان. كل نظام استبداد يخاف الكلمة أكثر مما يخاف السلاح.
ثانياً أنه متخلّف. اختار أكثر الوسائل بدائية.
ثالثاً أنه مغرور بنفسه، يعتقد أنه يمكنه الاتيان بأي شيء وسوف يُسمح له.
رابعا أنه كاذب، حنث بوعد الأمان للضحية.
خامساً انه خالف الفقه الذي يدّعي الانتماء له مشايخه. اذ لا يحق له رفع الأمان عمّن أعطيته الأمان إذا دخل أرضك.
سادساً أنه يستطيع أن يفعل بالمال كل شيء. معظم موجودات هذه الدنيا لا ثمن لها، ومنها الحياة البشرية.
سابعاً هو سارق، صادر الركاز، أي ما في باطن الأرض. هذه المواد ملك الأمة لا ملك الأبناء المدللين الذين لا يفعلون شيئاً مفيداً في حياتهم.
ثامناً هو حاكم فاقد الأهلية. أبلغه ترامب أنه باقِ بمنصبه بفضل القوة الأميركية وحسب.
تاسعاً هو حاكم فاقد الشرعية، يتلقى شرعيته من الدعم الخارجي لا من رضى الشعب.
“لو كنت فظا غليظ القلب لانفضّوا من حولك” كما قال الكتاب العزيز. هذا الغرّ الأحمق الأرعن اتخذ اجراءات من دون مشاورات فأغضب رجال الدين، وأغضب العائلة الحاكمة التي اعتقل أعضاءها. دخل في حروب مدمرة ومنافسات لا تقلّ تدميراً مع جميع الدول المجاورة تقريباً. لم يحرز نصراً واحداً. لم يحسن الأداء في المهام التي كلّفه بها أسياده، قادة الدولة العظمى. لم يحسن الأداء في تنفيذ المبادرات التي اتخذها هو. الإصرار على مصير شخصه كبير في الأوساط السياسية في العالم. التدخّل في الشؤون الداخلية ينزع عنه السيادة. ما فعله بخصوص السيادة يجعله مساوياً لبقية الحكام العرب. ليس منهم واحد يحكم بالتواصل مع شعبه. جميعهم يحكمون بالقمع والخوف من شعوبهم. هذا سر خوفهم من الكلمة سواء جاءت من المعارضة أو من الموالاة.
على الرغم ممّا قيل عن الحداثة في المملكة، فيما خصّ قيادة النساء للسيارات، ودور السينما، الخ… إلا أن ذلك يبقى مظاهر تجميلية لنظام تأسّس على ايديولوجيا سلفيات هي أساس سلفيات العالم. ما على قادة العالم أن يبحثوا كثيراً عن مصدر السلفيّة وايديولوجيتها وتمويلها.
المصدر معروف. المكان معروف. آثار هذه السلفية انتشرت في شتى أنحاء العالم، سواء في ذلك المنظمات ذات الارتباط بهذا النظام أو ذاك. هذه السلفية غيّرت الدين. أحدثت مزاجاً دينياً، وألغت المزاج الدنيوي عند الشعوب. عاونتها على ذلك دول الغرب منذ السبعينات، خاصة مع تجنيد المقاتلين في أفغانستان ضد الاحتلال السوفياتي. أحدثوا انتصاراً، لكن الوحش خرج من القمقم. الآن تتصاعد الفاشية والعنصرية في جميع أنحاء العالم. كلها يفتّش عن أصول. وكلها يدّعي الانتماء لعصور غابرة. كلها يستخدم الأدوات الحديثة. كلها ايديولوجيات جديدة، جوهرها قديم وظاهرها غير ذلك.
إبداع السلفية والعنصرية والفاشية أنها رفعت الجهل الى مستوى المقدس. استخدم القاتل أدوات بدائية في زمن يستطيع فيه استخدام وسائل أكثر تقدماً، وبوسائل العلم الحديث، الامر الذي يجيده السلفيون. أصرّوا على الوسائل البدائية لأن عقلهم بدائي، ولأن الاستكبار لديهم جعلهم يعتقدون أن الثروة تجعلهم قادرين على استخدام أيّ وسيلة بغضّ النظر عن الرأي العام العالمي. لم يدركوا أن العالم لم يعد يقبل وسائل القتل التي تعتمد على رمي المعارضين من الطائرات فوق الربع الخالي. عقلهم الباطن أراد إثبات أن الوسائل البدائية ما زالت تؤدي المهمة. السلفية أعمت قلوبهم وأفقدتهم عقلهم. أرادوا إثبات شيء لم يكن إثباته ممكناً إلا بما يؤدي الى فضح النظام وحكامه وتعريضهم لما يتعرضون له من حملة عالمية. ليست هذه الحملة مغالية. أنت في القرن الحادي والعشرين وتستخدم وسائل بدائية. سلفيو البلدان الأخرى والأديان الأخرى لا يستخدمون هذه الوسائل البدائية. هؤلاء مهزلة القرن العشرين في تأخّرهم الفكري وبدائية وسائلهم.
مثل واضح عن نظام عالمي على رأسه من يدير العالم. منطقتنا في قاعدة هذا النظام. حكامها مستبدون. أقوياء علينا. أذلاء أمام سادتهم. فاقدو الأهلية. فاقدو الشرعية. ضعاف العقول. مختلو النفوس. ينفشون ذاتهم المنتفخة أصلامثل ريش الطاووس. كل ما لديهم هباء. يذهب هباء لإرضاء السادة الكبار. يبدو أن الاستعمار يعود الى الازدهار. زارهم الامبراطور في بداية عهده. ظنوا أنهم يستطيعون أن يفعلوا أي شيء. عندما ارتكبوا فعلتهم، نسوا أو تناسوا استشارة الامبراطور، وأنهم ليسوا أحرارا في تصرفاتهم كحريتهم حين يفرضون على شعوبهم الإذن قبل فعل أي شيء، وعلى أن لا يكونوا أحراراً في أي شيء.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق