حاولت ولم أفلح. حاولت مع نفسي أولاً التقليل من أهمية العودة الطالبانية إلى السلطة في كابول. الطالبان كانوا دائماً هناك. خرجوا في عام 2001 من مقار السلطة في كابول وفي عواصم محلية أخرى ولكنهم ظلوا هناك في الجبال والقرى. حرصوا على ألا ينساهم الناس فراحوا يبعثون بانتحارييهم يفجرون أنفسهم في المدن وأمام مؤسسات الدولة ومرات كثيرة في حضور القوات الأميركية وقوات حلف الناتو. تعايش الأميركان والطالبان لعشرين عاماً في بلد تعادل مساحته مساحة ولاية تكساس. لم يفقد الأميركان ولا الطالبان الأمل في أن يوماً سوف يأتي يتخلص الواحد منهما من الآخر. على ناحية تقف في بعض المدن الأفغانية وعلى أطرافها دولة عظمى وحلف جرار بإمكانات هائلة وعلى الناحية الأخرى يكمن في الشوارع الخلفية للمدن وفي وديان الجبال ومسالكها الوعرة ستون ألفاً من المقاتلين يشكلون بؤرة الطالبان. تعايشوا، يتقاتلون حيناً ويتفاوضون أحياناً كثيرة. تصورت أنه في ظروف عادية كظروف العشرين عاماً من الاحتلال والمقاومة الانتحارية والتفاوض المتقطع يمكن أن يستمر التعايش وقد يصبح وضعاً قائماً لمدة يمكن أن تطول طالما شعر الأميركيون أنهم مستفيدون استراتيجياً من وجودهم قريبين من وسط آسيا وعلى حدود إيران والصين المنافسين الأكبر للنفوذ الأميركي في الخارج، وطالما كانوا متأكدين من أن إصلاحاتهم الاجتماعية سوف تثمر في النهاية جيلاً مختلفاً، وطالما استمرت جذوة القتال والتبشير لدى الطالبان مشتعلة والحدود مع باكستان مفتوحة.
•••
أسأت التقدير. لم أكن غافلاً عن حقيقة أن أميركا، الإمبراطورية بكل معاني هذه الكلمة، دخلت طريق الانحدار. ولكن يبدو أنني لم أتبحر بما فيه الكفاية في دراسة آجال الإمبرطوريات التاريخية والولايات المتحدة واحدة منها بامتياز. نعم لم أتبحر في الآجال ولم أدقق في الأسباب، أسباب الانحدار والمقارنة بين ظروفه في كل حالة على حدة. لم يشبعني الرد الجاهز والقائل بأن أفغانستان حالة استثنائية. حاول الإنجليز في عز وعظمة إمبراطوريتهم ولم تكن اكتسبت بعد صفة العجوز، حاولوا ثلاث مرات خلال القرن التاسع عشر فرض الاحتلال البريطاني على الشعب الأفغاني وفشلوا. لم يشبعني في الوقت نفسه النقل التاريخي غير الدقيق للصعوبات التي واجهتها حملة الإسكندر المقدوني. تتميز أفغانستان جغرافياً وحضارياً، فهي تقع في وسط آسيا ويتعامل معها المؤرخون والجغرافيون كدولة تقع جنوب وسط آسيا وليست جزءاً منه. وهي بالتأكيد ليست جزءاً من إقليم جنوب آسيا، وإنما حسب كتاباتهم دولة تقع شمال إقليم جنوب آسيا، الإقليم الذي تقع فيه الهند وباكستان. جديرة بالاهتمام حقيقة أن وجود إيران الثقافي والسياسي في موقعها الراهن وضع حداً يفصل قطعياً أفغانستان عن إقليم الشرق الأوسط. خلاصة القول يظهر واضحاً أن أفغانستان كيان لا ينتمي لإقليم آسيوي بعينه ويتعامل أهله بالشك في نوايا جميع جيرانه المنتمين حساً وواقعاً لإقليم أو آخر.
•••
تعددت خلال الأيام القليلة الماضية التوقعات عن مستقبل أفغانستان بعد خروج الأميركيين. أميل إلى التبني الحذر لعدد منها. أميل مثلاً إلى الرأي الرافض لاحتمال أن يتمسك الطالبان بتطرفهم وجمود المفاهيم، فالوجود الأميركي غرس بذرة تحولات اجتماعية ووجود الصين في صيغته الجديدة كقوة عظمى على الحدود سوف تؤثر بحكم الجوار “غير العادي” في ميول الشعب الأفغاني وتدفعه في اتجاه التغيير. ثم أن وجود إيران على حدود أخرى لن يعني بالضرورة أن حركة طالبان يمكن أن تنضم للتوجهات الثورية الإيرانية فتنشئ مع طهران حلفاً أو جبهة معادية لأميركا في الشرق الأوسط. ما زلت أعتقد أن طالبان ليست مستعدة للعب دور تخريبي لمصالح أميركا أو غيرها في الشرق الأوسط فضلاً عن ثقتي في أن لا مصلحة أو علاقات تاريخية أو حتى حضارية وثقافية لأفغانستان في إقليم الشرق الأوسط.
أضيف أيضاً أنني لا أتصور قيادة أفغانية، أياً كانت توجهاتها العقيدية، يمكن أن تفكر الآن أو في الأجل المنظور في حشد أفكار وجماعات تثير مشكلات في مقاطعة سنكيانج الصينية حيث أغلبية السكان من الإيغور المسلمين. لا أظن أنه بين أهداف الطالبان الدخول في مواجهة مع قطب اقتصادي وسياسي أعظم مثل الصين بينما لم تكتمل للحركة شرعيتها الحاكمة، وهي الشرعية التي يمكن أن تكتمل باعتراف الصين بالحركة عنصراً مسئولاً وعامل استقرار في منطقة حساسة جداً للصين. وفي كل الأحوال أتصور أن الصين لن تمنح الطالبان هذا الفضل الكبير إلا مقابل التزامات وتعهدات أفغانية أستطيع تخيل فحواها ونقاط ارتكازها.
•••
لا يثير قلقي سقوط كابول وصعود طالبان. دوافع القلق عندي مختلفة. قلت وأكرر أن استعادة طالبان لن تغير شيئاً في خريطة الشرق الأوسط ولا في شرق آسيا ولا في وسط آسيا حيث لا تزال روسيا، الشر الأعظم حسب الطالبان، تهيمن على بلدانه. وفي اعتقادي وحسب معلوماتي تسعى إلى عقد تفاهم تاريخي بين موسكو وكابول يرطب الاحتقان ويزيل المخاوف. قلقي ناتج عن عواقب الفشل الأميركي. أميركا كررت الفشل بل صار من المتوقع في عالم العلاقات الدولية عند الاقتراب من أزمة أو مشكلة أن تفشل أميركا. حدث مراراً أن توقع الخبراء والقادة السياسيون هذا الفشل إذا تدخلت دبلوماسياً أو عسكرياً. سيان. فشلت أميركا في مفاوضات الدوحة، لعل مبعوثيها ضحوا بحكومة كابول من أجل ضمان خروج آمن من كابول. لم تثمر المفاوضات لأميركا ما أرادت أو تمنت. أشارك بعض الكتاب الأميركيين والغربيين عموما الذين أثنوا على قرار بايدن الانسحاب، فالتكلفة المالية والسياسية للوجود الأميركي أصبحت مصدر حرج شديد للطبقة السياسية الأميركية وفيها الديموقراطي والجمهوري. أحسن بايدن بإصدار قرار الخروج وفشلت المؤسسات الأميركية في تنفيذ القرار. القرار ناجح وله ما يبرره أما التنفيذ ففاشل وليس هناك ما يبرره إلا واقع الانحدار الأميركي بصفة عامة. تنفيذ الخروج من فيتنام كان فاشلا وتنفيذ العقوبات على دول كثيرة فاشل والسياسات تجاه الشرق الأوسط وتجاه أوروبا أثمرت فشلاً في ذيل فشل. قرارات جيدة صدرت في شأن الدفاع عن الديموقراطية فشلت عن تنفيذها. أميركا نفسها تئن تحت فشل معالجة المسألة العنصرية وتحت القلق على مصير الديموقراطية في أميركا نفسها.
منظر الخروج من كابول وتخبط تصريحات المسئولين الأميركيين في الآونة الأخيرة وسقوط أفغانستان في أيدي الطالبان بدون طلقة واحدة من جيش أفغاني تكلف تنظيمه وتدريبه أموالاً طائلة. كلها وغيرها لا يحصى مثل أوضاع الكوفيد-19 يعني أن انحدار أميركا تجاوز الممكن واقترب من خط الكارثة. استيقظت عشرات الدول على منظر سقوط التجربة الأميركية في كابول ومعه الفشل المدوي للنموذج الأميركي.