ينتظر العرب أربع سنوات كاملة ليأتيهم هذا العيد الذي يملأ حياتهم بهجة وحبوراً ويمنحهم الفرصة للتعبير عن مواقفهم وآرائهم وعواطفهم، بغير حسيب أو رقيب أو مساءلة حول تأييدهم أو اعتراضاتهم على «لعب» هذه الدولة أو تلك بمشاعرهم.
إنه شهر الكلام المباح في الليالي الملاح: شهر الحرية والديموقراطية والتعبير عن الموقف، مهما كان حاداً، من دون خوف من سلطاتهم أو تهيب يلجم ألسنتهم عن التعبير وقول كلمة الحق أمام سلطان جائر!
إنه شهر «المونديال» الذي كاد يكون «مباركاً» بلياليه التي يحلو فيها السهر، حيث يتلاقى الأصدقاء والخلان متى شاؤوا وحيثما أرادوا، فيعبرون عن عواطفهم صريحة بغير مواربة، ويقررون مواقفهم من «الدول» شرقاً وغرباً، وبغض النظر عن القوميات والأديان والعقائد وصراع الحضارات..
إنه الشهر اليتيم للحريات العامة في طول الوطن العربي وعرضه!
ولأنه على هذا القدر من الأهمية والخطورة، فإن أهل النظام العربي يحتفون به ويكرسونه «عيداً مفتوحاً» يشغل به رعاياهم عنهم، وفي ذلك مكاسب واضحة للأطراف جميعاً.
إنه شهر حرية الرأي والممارسة الديموقراطية الصحيحة.
كل يقول رأيه في «الدول» و«الأنظمة» و«الحكام» و«اللاعبين» و«المدربين» وسياسة كل فريق ومدى التزامه القوانين والأحكام المرعية وقرارات مجلس الأمن الدولي، بعنوان غزة.
.. أو ما يتعلق بالطموح الإيراني المستفز للحاق بإسرائيل في المجال النووي.
.. أو بالطبيعة الإنسانية المرهفة للاحتلال الأميركي للعراق، والتي تتجلى في دفنه ملايين الأطنان من السموم في أرض الرافدين، بحيث ستغيب عنها الخضرة وسيسقط عنها لقب «أرض السواد» «لتغدو» صحراء الموت الأميركي السريع.
بالمقابل، فإن الاحتلال الأميركي المدول في أفغانستان قد اغتنم شهر «المونديال» المبارك ليزف الى العالم بشرى عثوره في أرض ممر خيبر على كنوز من المعادن الثمينة تتجاوز قيمتها ثلاثة تريليونات دولار… فهل بعد هذا يمكن أن يتجرأ مكابر على إدانة الاحتلال واتهام المارينز بسرقة ثروات الشعوب المقهورة بالاستعمار الجديد!
إنه شهر التخفف من المعارضات ومطالبها، هذا إن وجدت..
ينشغل المحكومون بأقدام اللاعبين والكرات التي تهتدي الى المرمى أو تطير بعيدة عنه مستهلكة أعصاب الجمهور، وقد يختصمون حول موقف الحكم من هذه «التمريرة» أو تلك فتعلو أصواتهم المهتاجة، وقد يتضاربون،
ويستمتع أهل النظام بمشاهد العراك بين رعاياهم وقد انصرفوا عن مطالبهم في الخبز مع الكرامة وحق العمل وحق الرأي وحق الانتخاب وسائر البدع التي جاءتنا من بلاد الكفر والخروج من الدين وعليه.
تطغى صرخات التهليل للكرة التي دخلت المرمى على وقع أزيز الرصاص الإسرائيلي القاتل للمليوني فلسطيني المحاصرين في قطاع غزة حتى الموت جوعاً وعطشاً، وسط أنقاض بيوت لجوئهم الثاني التي دمرتها الحرب الإسرائيلية.
وبالتأكيد فإن شهر المونديال الذي يكاد يكتسب أهمية استثنائية توازي القداسة ليس هو الموعد الأفضل لتذكير العالم بحقيقة أن إسرائيل تملك مفاعلاً نووياً قادراً على إنتاج الرؤوس النووية منذ ثلاثين أو يزيد، وانه قد أنتج ـ على ما تردده المصادر الموثوقة في هذا المجال ـ مئتي رأس نووي.
***
لا عرب في المونديال، غالباً..
وإذا ما وقعت معجزة واستطاع فريق عربي الوصول الى الجولات الأولى من مباريات كأس العالم فإنه يستقطب عواطف العرب عموماً الذين يتشهون نصراً من أي نوع، ولو في كرة القدم… فينسون الخصومات التي يسقطها أهل النظام العربي عليهم ويندفعون في تأييده، عائدين الى عقولهم والأصول: إنه فريقهم جميعاً، وعليهم أن يشجعوه حتى لو كان أضعف من أن يصل الى الدور النهائي والحصول على الكأس التي بمستوى الأمنية! فكيف اذا كان فيه، الآن، النجم محمد صلاح، واذا كانت بعض المنتخبات العربية “تلعب” حقيقة في المونديال الروسي!
ربما لهذا يتوزع العرب في ولاءاتهم على فرق عدة، لكنهم يحجبون عواطفهم بالتأكيد عن الفريق الأميركي، مثلاً، أو الفرنسي، أو البريطاني غالباً، وينحازون الى دول يعتبرونها الأقرب الى قلوبهم، والأكثر تعاطفاً مع قضاياهم الأساسية، وفلسطين دائماً هي المعيار، كمثل البرازيل والأرجنتين، ودول العالم الثالث إجمالا، أو الفرق المخاصمة لمن يخاصمونه سياسياً.
إن أهل النظام العربي يقدمون في مناسبة المونديال دليلاً ناطقاً على فشلهم المطلق: في الداخل كما في الخارج، في الرياضة كما في السياسة والاقتصاد والتعليم!
إنهم يستخدمون الرياضة في الداخل لإشغال رعاياهم عن همومهم الأصلية، ودفعهم للانسياق مع عواطفهم بل غرائزهم الى النهاية، فتصير الأندية الرياضية بديلاً من الأحزاب… ولان أهل النظام هم هم أصحاب الثروة، أو مصدر النعمة على من يقربون من رجال الصفقات والأعمال، فإنهم يوجهون هؤلاء لرعاية أندية في مواجهة أندية أخرى، بما يسهل انقسام الرعايا بعيداً عن همومهم الأصلية، واندفاعهم في الخصومة أو الولاء خارج السياسة، أي خارج المعارضة والتصدي لمصادر الظلم والإجحاف وإهمال مطالبهم المشروعة.
وقديماً استغرب «قائد ثورة الفاتح من سبتمبر» في ليبيا أن يتنازع بضعة وعشرون لاعباً كرة قدم واحدة، وقرر أن يكون لكل لاعب كرته الخاصة يذهب بها حيث شاء…
لقد أفسد أهل النظام العربي الرياضة (والرياضيين) في جملة ما أفسدوا من مجالات الإنجاز، ولا نقول الإبداع، التي يستطيع «رعاياهم» تحقيقها لو أنهم يملكون حق القرار وحق الرأي فضلاً عن حق القول، حولوا الرياضيين الى دعاة بل أبواق للنظام: إن فازوا فالفوز له وإن خسروا فالخسارة عليهم..
يكفي أن نستعيد المشاهد المخزية لما حفلت به المباريات بين منتخبي كل من مصر والجزائر في مباريات كأس أفريقيا، لنتبين كيف خرّبت الأغراض السياسية المباشرة لأهل النظام العلاقات الأخوية (بل المصالح الوطنية) بين الشعبين الشقيقين قبل أن تضرب الروح الرياضية في الصميم وتشوه سمعة الأمة جميعاً التي وقف العالم يسمع المسؤولين في أكبر دولتين عربيتين «يردحون» ويتبادلون الشتائم ويهينون دماء الشهداء والرموز الوطنية لمن كانوا رفاق سلاح وشركاء في الجهاد من أجل التحرر واستعادة الكرامة العربية والإسلامية.
إن أهل النظام العربي لا يتورعون عن استخدام أي سلاح لاستثارة غرائز «الجمهور» وسحبه بعيداً عن مطالبه، بل الوقوف ضد مطامحه، وحرفه عن أعداء وطنه وقوميته ودينه من أجل أغراضهم الصغيرة.
إن أهل النظام العربي، وبعضهم قد حكم عقوداً طويلة، وما زال يحكم سعيداً، قد عجزوا عن إنتاج فريق واحد مؤهل للمشاركة جدياً في مباريات كأس العالم… فضلاً عن الحلم بالفوز بالكأس.
إن جماهير الأمة «تستورد» الأبطال من خارجها، في زمن البؤس الذي نعيش فيه مسحوقة بالضآلة وانعدام الجدارة بتحقيق أي فوز (ولا نقول: أي نصر) حتى في الرياضة.
لقد أصاب هذا النظام العربي الأمة بالقحط: لا قائد ولا زعيم، لا حكومة ناجحة ولا إدارة، لا موسيقي موهوب ولا مطرب أو مطربة تخاطب الوجدان، فضلاً عن أن كلمات الأغاني بمجملها تكاد تشكل إهانة للذوق العام… أما السينما والمسرح فحدث عن المستوى الهابط ولا حرج، وأما الجهات الراعية للآداب، رواية وقصصاً وشعراً ومسرحيات، فقد توزعت بين إدارات رسمية تطارد روائع الإبداع كما حصل مع «ألف ليلة وليلة»، وبين شيوخ نفط «يشترون» بدنانيرهم الشعراء والكتاب ويذهبون بهم بعيداً عن هموم أهلهم.
فمن أين سيأتي الفريق المؤهل للفوز بدخول جنة كأس العالم، قبل أن نحلم بمن يصل الى النهايات وملامسة تلك الكأس السحرية؟!
***
من الذكريات المؤلمة:
إن الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران ـ يونيه ـ 1982 قد تزامن مع مباريات كأس العالم، وكانت قد أقيمت في اسبانيا.
ولقد انشغلت الجماهير العربية العاجزة عن الفعل والتأثير على أهل النظام العربي بنتائج المباريات بين الفرق المختلفة عن وقائع ذلك الاجتياح الذي دمر عاصمة عربية مميزة هي بيروت «التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء».
كذلك فإن مباريات كأس العالم في حزيران ـ تموز (يونيه ويوليو) 2006 قد شهدت مع نهاياتها الحرب الإسرائيلية على لبنان (من 12 تموز ـ يوليو وحتى 13 آب ـ اغسطس ـ 2006) بكل البطولات والمواجهات المشرفة بين طوابير جيش الاحتلال بتفوقه الجوي والساحق وقوة نيرانه الجهنمية ومجاهدي المقاومة في لبنان الذين واجهوا العدو فصدوه ومنعوا تقدمه وحققوا بثباتهم في مواقعهم حتى الساعة الأخيرة نصراً مبيناً.
لكن أهل النظام العربي قد نقموا على المقاومة صمودها، ورأوا في انتصارها هزيمة لهم، اذ فضحت عجزهم واستسلامهم فنقموا عليها، ومضوا بعد الحرب يشنون عليها حملات التشويه فاتهموها في وطنيتها وفي دينها، ورأوا أنها إنما تآمرت عليهم فشغلتهم ـ وجمهورهم ـ عن متابعة وقائع المونديال والتمتع بأهداف الآخرين!
إنه المونديال… والعرب ليسوا بين المشاركين فيه إلا رمزياً.
لكن الجماهير العربية ترى فيه فرصة للتعبير عن آرائها بحرية.
.. وأهل النظام العربي يرون فيه إجازة ممتعة للراحة من رعاياهم الذين يتوزعون بحماستهم على الفرق المتنافسة على الكأس، فينشغلون عنهم ويتركونهم يستمتعون بإجازة هانئة!
إنه المونديال… عيد الرياضة في العالم وعيد الديموقراطية عند الرعايا العرب!
وشتان ما بين العيدين!
نشرت في جريدة «السفير» في 2010/6/23