طلال سلمان

المرأة المصرية والعالم: بعض دواعي القلق

رحلة كل عام أنتظرها بصبر. أذهب متطلعا للتزود بمعلومات صادقة وحقيقية عن المجتمع، أو على الأقل عن عينة تمثل أهم قطاعاته، وأعود بالفعل مزودا بالمعلومات وبما هو أهم. أعود بصداقات قديمة بعد أن تجددت وصداقات جديدة لم تختبر وحكايات تبحث عن حافظ يؤتمن عليها. رحت هذه المرة وفي ذهني أفكار تحتاج الاختبار. أفكار عن أسباب حال القلق الطاغية في جميع مسارح العلاقات بين الدول. سألني رجل من رجال قليلين تصادف وجودهم في هذه الرحلة، «بالله عليك، كيف أتاك خاطر أن تجد إجابات عن أسباب القلق في النظام الدولي هنا في رحلة نسائية التكوين والتنظيم والأهداف. هل تجاهلت حقيقة أن المشاركات في هذه الرحلة بعيدات عما تطلقون عليه النظام الدولي بأزماته وتطوراته. أنت هنا في ضيافة ناشطات ومتطوعات لخدمة قطاع النساء في المجتمع المصري، متخصصات في فنون الإسهام في حل قضايا المرأة ومشكلاتها وتذليل العراقيل التي تعطل وصولها إلى إدارات الدولة وآذانها. نساء بعيدات عن العالم وقضاياه».


كنت قد رصدت خلال الأيام السابقة على هذه الرحلة عددا من تطورات خلتها مسؤولة بشكل أو آخر عن حال القلق السائدة في العالم. رصدت مثلا التدهور المناخي والحال المتدنية للمصادر والثروات الطبيعية. الطبيعة غاضبة حتى راحت في الأسابيع الأخيرة تعاقب من تظن أنهم أساءوا فهم كرمها.

رصدنا ثانيا نقص الكفاءة في إدارة كثير من المجتمعات البشرية، اكتشفنا أننا كما الهند وباكستان وأفغانستان وباراغواي والبرازيل والمكسيك وتركيا وغيرها نعاني نقصا في كفاءة القادة السياسيين المحليين. هكذا يعم الفساد وتنهض الطائفية والعنصرية وتتوحش عصابات الإجرام والإرهاب.

رصدنا تطورا ثالثا أثار جدلا مطولا. هناك، وهنا، تفرقت الأمم منقسمة على حالها. بحثنا حتى تعبنا وفي النهاية كدنا نتأكد أن لا دولة في هذا العالم وهذا الوقت بالذات يعيش أهلها في وئام وسلام. قد لا تترجم الفرقة نفسها على الدوام حربا بالسلاح والقتل بل يمكن أن تنفذها فتنة طائفية وتخريب اقتصادي وأحقاد طبقية وتهجير بعد الإفقار والترهيب واغتراب للفرار من سوء المصير. رصدنا مفجرات الفوضى متناثرة وفي مقدمتها فداحة الفجوة بين الدخول والامتيازات وصعوبات المعيشة وتدهور المرافق ونمو اقتصادات الفساد من غسيل الأموال إلى الاتجار في المخدرات والأعضاء البشرية والنساء عموما والأطفال بوجه خاص.

رصدنا تطورا رابعا. العالم، ونحن العرب جزء منه، راح متدرجا يعلن فشل الديمقراطية كما عرفها الغرب كنظام حكم دولة ونظام إدارة مجتمع. الغرب نفسه الذي صنعها وصاغ فكرها وأبدع في هندسة مؤسساتها يعيد اليوم تعريفها. يقولون إن الشعب صاحب الحق فيها والمستفيد منها يستطيع أن يفعل بها ومعها ما شاء له أن يفعل. لا يهم على أي شكل تكون وبأي مؤسسات تعمل. هكذا قامت حكومات شعبوية ومع قيامها وقع ارتباك واسع وقلق عميق.

رصدنا تطورا خامسا عندما اصطدمنا بأسلوب في العمل السياسي لا يفكر فيه ويتبناه إلا سياسي عاجز. وجدناهم في بعض أصقاع الغرب، والشرق أيضا بأوسطه وأقصاه، يلجأون لاجراءات ويشرعون قوانين ويضعون لوائح ينتج عن تطبيقاتها خلل في العلاقة بين السلطة والشعب أو بين قطاع من الشعب وقطاع آخر أو بين قائد وآخر أو بين مؤسسة وأخرى من مؤسسات الدولة. هناك في عدد كبير من دول الغرب يحققون الآن في الخلل الذي أصاب توازن واتساق مؤسساتهم التمثيلية وحملاتهم الانتخابية نتيجة تواطؤ واعتداء على خصوصيات الرسائل الإلكترونية والنصية وغيرها، بينما يستمر سياسي أو آخر من نوع الرئيس دونالد ترامب وأقرب مستشاريه مثل بانون وبولتون وبومبيو في ابتكار أفكار إثارتها كاف لتوسيع أو تعميق الخلل الناشب في المجتمع الأمريكي.

رصدنا، كما رصد غيرنا، تطورا سادسا لعله الأخطر والأبعد في المستقبل تأثيرا. رصدنا تغيرات، بل تحولات، يومية في قطاع التكنولوجيا ورصدنا معها وبسببها رؤى اجتماعية وسياسية واقتصادية متضاربة أحيانا ومتخبطة معظم الأحيان. هى مرحلة في التاريخ البشري ينتقل فيها الإنسان نقلة أوسع مما تعود عليه. كانت نقلة واسعة حين دخل في مطلع القرن العشرين عصر الضغط على «الزر» لتعمل لمبة الكهرباء ومحرك الطائرة ولينطلق الصاروخ الحامل للقنبلة الذرية متوجها نحو ما ينوي تدميره أو إبادته. هذا العصر ينتهي الآن ليبدأ عصر جديد يعتمد نظرة العين بديلا للزر والإنسان الذكي بديلا لإنسان اليوم حتى لو كان فائق الذكاء. التحدي الجديد هو في أن ننجب ويعيش بيننا بعد سنوات معدودة إنسان أذكي من الإنسان الآلى «المخلق» في معامل الذكاء الاصطناعي.


أتاحت الرحلة الفرصة للتحقق من وجود صلات مباشرة أو غير مباشرة تربط بين المرأة المصرية والنظام الدولي. كنا قبل الرحلة نتحدث عن وزيرة مصرية للسياحة وأخرى للاستثمار كلاهما، كما سمعت، أجادتا في امتحان مؤتمر المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في دافوس بسويسرا. كلاهما من نماذج لنساء مصريات يرتبطن بعلاقة عضوية ووظيفية بالنظام الدولي. إنما أكتب هنا عن مصريات كان ظني أنهن لا يتصلن بالنظام الدولي، وإن اتصلن فعن طريق طرف ثالث، هو الدولة التي يحملن جنسيتها ويحتمين بها. كلنا نعرف أن النظام الدولي هو الذي يقرر الحقوق التي يجب أن تتمتع بها نساء العالم، ومنهن نساء العالم النامي، ويقرر أيضا متى يتجاهل هو نفسه هذا الجزء من كتيب واجباته. هو أيضا الذي، عن طريق علاقات الدول ببعضها البعض، كبرامج تكاملها وتحالفاتها ونصيبها في التجارة الدولية والنزاعات الناشبة بينها، يوزع على شعوب العالم ثمرات هذا التعاون وأوجاع هذه النزاعات والكوارث. لم أعرف بالتأكيد أن الصلة مباشرة وعضوية في غالب الأحوال بين المرأة المصرية والنظام الدولي إلا عندما أتيحت لي فرص التحدث على انفراد مع عدد من شريكات الرحلة.


إحداهن وكانت تحمل بين ذراعيها طفلا بدا لى في سكونه وارتياحه رضيعا. بادرتني بالقول إنها تحيا حياة هادئة. سنتان مرتا على زواجها قضتهما في سعادة. وفقت في زوجها وطفلها. الزوج، أو العريس، كما يحب أن تناديه، هادئ الطبع، يساعد في أعمال البيت ورعاية الطفل ويقتسمان مصروف البيت. دخلهما المشترك يجعلهما في غير حاجة إلى دعم الأهل وبالتالي تخلصا من احتمالات تدخلهم. المسكن مريح وفي موقع آمن وقريب من العمل والسوق. لا تجد ما يستحق الشكوى منه إلا نقص المياه في الحنفيات. سألت واستشارت وأجيبت بأن نقص المياه في حنفيات بيتها جزء يسير جدا من أزمة دولية متفاقمة. هذه الأزمة يناقشونها في مؤتمرات دولية آخرها مؤتمر في باريس قبل شهرين ولا أمل في انفراجة قريبة. القلق على مصير ابنها وعائلتها السعيدة من يوم تتعدد فيه مرات انقطاع المياه أو تتوقف يهدد سكينتها وآمالها.


الثانية ولعلها الأكبر سنا في المجموعة وأقدمهن في هذا النوع من العمل وأكثرهن إقبالا على التعلم وتنويع الاهتمامات والشهادات الدراسية العليا. تعرف عن العالم ما يجعلها قبلة المستفسرات والمتسائلات عن النزاعات والحروب وحواديت السياسة الدولية وفضائحها. قالت «حاولت أن أفهم ولم أفهم كيف أن بريطانيا العظمى يحكمها الآن سيدة تفتقر إلى كفاءة ونستون تشرشل أو حتى مارغريت تاتشر. أما مع الولايات المتحدة فلم أتعب عقلي. هذه الدولة تتراجع لأن الطبقة السياسية فيها توقفت منذ عقود غير قليلة عن إنجاب وتدريب سياسيين أكفاء. تسألني لماذا أهتم. أهتم لأن غباءهم يتسبب في نزاعات وتصرفات غير متزنة أو متوازنة وبالتالي تتسبب في بث القلق في شعوبهم، والقلق كما لا شك تعلم حالة معدية يمكن أن تبدأ في أمريكا وتصل في أقل من نهار يوم إلى باب بيتي تطرقه بكل العنف الممكن. انظر حضرتك إلى ما عادوا يفعلون في أمريكا اللاتينية وإفريقيا».


«الدنيا فوضى». هكذا ترى سارة العالم. تراه عصابات تتاجر في النساء والمخدرات وتخطف الأطفال. سارة لا تأمل خيرا في المستقبل. أقصى درجات الرعب تظل ممسكة بخناقها حتى يعود أولادها الثلاثة من المدرسة. «الثلاثة في رقبتي أمانة ومسؤولية بعد أن ترك أبوهم البيت وراح ليعمل في دولة خليجية، ومن يومها لم أسمع منه أو عنه». تعرف جيدا ما أخشاه. لا أخشى خبر موته بقدر ما أخشى خبر انضمامه لمهووسين بالدين والقتل. أقضي الساعات أسمع نشرات الأنباء الأوروبية. صدقني الفوضى هناك تقف وراء الفوضى في منطقتنا وكلاهما معا وراء الفوضى في حياتي».


جمعتني وعدد من رفيقات الرحلة مائدة اصطفت فوقها أكواب الشاي وقد تدلت من كل كوب منها خيط وفي القاع بقايا سائل أكحل. كادت الشمس تختفي. كشفت عن ضعفها لحظات إيابها بعد يوم عمل طويل، راحت تنسحب بسرعة ومع انسحابها انكشف البرد زمهريرا. الرفيقات حول المائدة بدأن يجمعن ما تناثر من حاجياتهن استعدادا للجوء إلى غرفهن وما زلن يتداولن في موضوعات استهلك النقاش حولها معظم ساعة الأصيل. واحدة ظلت متمسكة برأيها في أن مصيرنا مع استمرار التقدم التكنولوجي أن نكفر بالأديان السماوية أو نكفر بهذا التقدم وننقلب عليه ونثور من أجل وقفه وعود إلى تقاليد صحراء لا ترحم. قالت «أنا في الحقيقة لست واثقة من أن زوجي سوف يستمر يمارس مهنته إذا صح ما يقال عن منتجات آلية في شكل مخلوقات إنسانية سوف تتخرج بالمئات كل يوم من المعامل للعمل في المصانع والمدارس والبيوت. هذا عن زوجي أما عن مصير أولادي فلست أدري ما أقول وهل من جدوى أو عائد لما ننفقه على تعليمهم. هل بين المفكرين والعلماء من يدلنا على مستقبل آمن من غزو آليات وأفكار عصر تكنولوجي جديد؟».


فوق الممشى نحو صالة الطعام قالت أمينة، المحاورة الأمهر في هذا الجمع الذي انفض بسبب البرد «كانت جلسة استطلاعية ولكن مفيدة لنا ولك. تظن طبعا أننا أتينا في النقاش على كل دواعي القلق الذي نعيش كنساء في كنفه ويربطنا بالعالم. فاتك يا أستاذ أن تسألنا عن الرجل، أحد أهم دواعي قلقنا نحن معشر النساء. أنت مهتم بالعالم وعلاقتنا به وتأثرنا بمشكلاته التي يصدرها لنا. نحن أيضا نهتم ولكن جل اهتمامنا الآن نركزه على الرجل، هذا المخلوق الذي يجسد بمفرده من دواعي قلقنا ما يتفوق على الدواعي العالمية. اسمعها منى نصيحة صادقة، اذهبوا فأصلحوا حال الرجل قبل أن نتولى هذه المهمة بأنفسنا. وأظن أن هذا بالضبط ما سوف نفعله».

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version