الدين صار فتنة. إدخال الدين في السياسة هو طريق الفتنة في السياسة أو ما يؤدي الى سياسة فتنوية. إدخال السياسة في الدين نوع من النفاق، إذ في الأمر تخلٍ عن المطلق من أجل النسبي.
إدخال الدين في السياسة يؤدي الى أمرين متناقضين: النفاق أو الإيمان. هما لا يلتقيان. أو لا يفترض أن يلتقيا. الإيمان قائم على الإيمان المطلق بحقيقة ما. السياسة حرفة تدوير الزوايا للتنازل عن بعض الحقيقة من أجل التسويات كي يعيش البشر في مجتمع واحد. خاصة إذا كانوا ينتمون الى أديان مختلفة، علماً أن كل مجتمعٍ متعدد الأديان. الحقيقة غير المطلقة نسبية، ناقصة، حقيقة نسبية. لا يطيق المؤمنون الحقائق النسبية. خاصة التي بشّرت بها الفلسفة. المسلمون خصوصاً يكرهون الفلسفة. يفضّلون الصوفية إذ فيها إيمان مطلق. تخلت الصوفية عن العقل. تعتمد نظرية الفناء بالله، أي الاتصال المباشر به.
الطائفية ابنة الدين. هي نفاق من الطراز الأوّل. ادعاء المطلق وممارسة النسبي في آن معاً. تضع ذلك تحت عنوان حقوق الجماعة الطائفية؛ هي، كما تزعم، من أجل الحفاظ على حقوق الطائفة. أو هي السعي من أجل حقوق جديدة؛ وفي كل حال تعتبر كل طائفة أنها مظلومة.
لا تستطيع الجماعة الدينية تعديل مناهجها وإلا تكون قد تخلت عن مطلقاتها. تخلت عن حقيقتها، عن الحقيقة التي تملك. أو تدعي الوصول إليها، عن حقيقتها وحقيقة ماهيتها. التفاسير المتتالية للكتاب المقدس لا تحل المشكلة. ما يُبنى حولها من أحاديث شريفة تعكس واقع الآخذين بها أكثر مما هي حقائق تاريخية. لا كتاب مقدساً يحوي على تفسير وفهم وإقرار كل ما سيحدث بعد صدوره. تأويل من أجل فهم ما لم يكن يؤدي الى اختلاف وجهات النظر؛ التأويلات سوف تكون متعددة؛ مما يعيدنا الى نقطة الصفر. التأويل فيه تخلٍ عن موضوعية النص المقدس. تجاوزه من أجل فهم ذاتي. يصير النص المقدس مبعثا لتعدد المناهج أو المذاهب. هذه عنوان للفتن لأن كل مذهب يدعي أحقيته على غيره. ليس آفة فهم نسبي لنص مطلق، بل على أنه فهم مطلق لنص مطلق. أصحاب المذهب، كل مذهب، يزعمون الحقيقة المطلقة بين أيديهم. يتشنجون، وفي ذلك اتجاه للفتنة.
لا بدّ من التمييز بين الإيمان والعقائد. الإيمان علاقة مع الخالق؛ في العقيدة علاقة مع الآخرين. العقائد معظمها طقوس. مظاهر خارجية للقول للآخرين أن من يمارس العقيدة هو في الإيمان الصحيح. يدخلون العقائد، أي العلاقات بين البشر، في العلاقة مع الله. بدل العبادة او الخضوع لله عن طريق الإيمان به، يصير الله وسيلة لفرض العقيدة على الناس وقمع الآخرين ونبذ الاختلاف. العقيدة تعمل على نفس الإيمان. هي تدخل في ذات الإنسان لتحويلها لمصلحة الطقوس. يريد أهل الدين برهاناً من الناس على ما في داخلهم. يدخلون نفوسهم وأرواحهم. تُفقد حميمية النفس، وخصوصية الروح التي تخاطب نفسها، وعن طريق مخاطبة نفسها تخاطب الله وتطلب اللطف منه. الروح المؤمنة تطلب اللطف الإلهي. خلاصية الأديان تطلب العقاب والثواب، لتخليصنا من الخطيئة. لا تستطيع حل التناقض بين إرادة اللطف، على اعتبار اللطف إلهي المصدر، وأن هناك شراً ينبع من أصل غير الله. لا بد لاستقامة الدين من اعتبار لطف الله وحرية البشر في اعتقادهم وايمانهم. الله عدل بمقدار ما هو لطف. الدين فطرة ليس لإنكار الشر بل لتحويل الشر من التحقق الى أن يصير ما هو فضيلة.
أدياننا الراهنة ومذاهبها تنزع الفضيلة. لا شأن لها بالإيمان؛ كل ما يعنيها هو العقيدة والطقوس. أنت لا تثبت انتماءك للدين أو الطائفة أو المذهب إلا عن طريق ممارسة الطقوس؛ وعن طريق المظاهر الخارجية. نتخلى عن الجوانية. لا يعود الأمر مرتكزا إلى الأعمال بالنيات. تفقد النية قيمتها. يستطيع من ينوي أن يضمر شيئاً ويظهر ما يناقضه.
أدياننا الراهنة أصولية. داعشية لا ترى إلا بلونين: أسود وأبيض. فهي لا تستطيع التعايش مع السياسة. حتى الاتجاهات العلمانية لا تدرك أن الدين والسياسة لا يلتقيان. الدين يرفض التسوية والتراكم بناء على التسويات؛ والسياسة أساسها التسويات والتراكم بناء عليها. الدين لا يعترف بالتطوّر ولا يعتبر الخلاص إلا وسيحدث فجأة. ستقوم بذلك جماعات من “الأوادم” أو “الأبطال” الفرسان كما يعتبرون أنفسهم. هؤلاء سيغيّرون الكون بثورة يقومون بها، وذلك بمشيئة الله. يضعون السياسة في خدمة الدين، ويعيثون في الأرض فساداً، إذ يلغون السياسة التي تصير بين ايديهم دون إمكانيات التسويات. تلغي السياسة نفسها عندما تنضوي تحت راية الدين وتعمل من أجله. تصبح فرعاً من المعلومات المقابلة للعبادات في الفقه. ليست المشكلة في مجتمعاتنا فصل الدين عن الدولة (السياسة)، بل إخراج السياسة من قبضة الدين. رئاسة الجمهورية في إيران أشبه “بوزارة تفويض” كما شرحها الماوردي في “الأحكام السلطانية” وغيره. إخراج السياسة من عباءة الدين، تلك هي المشكلة الحقيقة. مجتمعاتنا تريد الاستمرار في الحياة على أساس الدين وكأن السياسة “تكليف شرعي”، و”التمكين” عند الاخوان المسلمين لم يكن سوى تمكين الدين في السياسة. كل هؤلاء يرفضون ولاية الأمة على نفسها، كما قال الإمام محمد مهدي شمس الدين. كتابه ضد العلمانية معروف. العلمانية في بلادنا لم تفهم واقع تطوّر مجتمعنا؛ بالأحرى لم يفهمها العلمانيون في إطار مجتمعنا وحسب مرتكزاته الايديولوجية.
الدين في مجتمعنا فوّض أمره للطائفية. الطائفة هي التي تتولى السياسة وتنوب عن المجتمع في تسيير الأمور. الطائفية في لبنان شكل آخر من الدين السياسي؛ شكل من ولاية الفقيه عند الشيعة والتمكين عند السنة. كلاهما وجهان لعملة واحدة. “الدين هو الحل” هو شعار الاخوان المسلمين، حيث يراد أن يشمل الدين كل نواحي الحياة بما في ذلك السياسة. لم تنجح السياسة في بلادنا من أن تتحرر من الدين. باختصار لم تتحرر الدنيا من قبضة السماء. تراجع المسلمون عن الحديث الشريف، “أنتم أعلم بشؤون دنياكم”. منذ أن وضع المسلمون، وهذا أمر قديم قدم الإسلام، السياسة تحت عباءة الدين، بقيت السياسة ملغاة أو تراجعت الى الخلف والى ضرورات النفاق. لم يعد بالإمكان إيجاد مجال منفصل متميّز بالسياسة. هي ما زالت ملغاة، إذ تنطبق عليها القواعد الفقهية. ما زال الأمر يتوالى من مهدوية، سنية شيعية، الى قاعدة وأخواتها، الى دواعش، مرورا بولاية الفقيه. وما ذلك إلا لأن السياسة ممنوع عليها أن تنضج وأن تنشق وتصير “الحل بيد الشعب”، وليس بيد “العلماء ورثة الأنبياء”.
الطائفية ليست امتدادا لنظام الملل العثماني. لم تستفحل الطائفية أيام الانتداب أو الاستعمار أو الفترة القصيرة من الليبرالية التي تلت الاستقلال. هي شكل مفيد لليبرالية الجديدة. استفحل أمر كل منهما في فترة واحدة ما بعد السبعينيات، مع ازدهار الخصخصة وإضعاف شأن الدولة. هي حداثتنا بالمقلوب، أو ما يُسمى العولمة. الأحزاب في الديموقراطية التقليدية الليبرالية هي تنظيمات تسيطر عليها الرأسمالية. كان لا بد من ظهور النقابات لتمثيل إرادة قوى العمل. النقابات هي أحزاب قوى العمل التي تمثّل أكثرية الشعب. مع صعود النيوليبرالية، تولت السلطات في كل مكان ضرب النقابات أو إجبارها على التلاشي. ظهرت مختلف أنواع الفاشية والعنصرية المكبوتة، أي التي لم تكن قد اختفت، كما هو أمر الطائفية عندنا. تشكيلات اجتماعية قديمة بأثواب جديدة. أضعفت الدولة بمعنى تمثيل واحتواء الشعب لصالح سيطرة كاملة للطبقة الرأسمالية وايديولوجيتها في الخصخصة. وهذه تعني ليس فقط السيطرة على الدولة بل السيطرة على أملاك الدولة ومواردها. لا تفعل الرأسمالية شيئاً دون استفادة مادية، سواء كان ذلك عن طريق الفاشية والعنصرية، في البلدان المتقدمة، أو الطائفية في بلاد كالتي نحن فيها. الفائض المالي، وهو فائض كبير، كما تدل مؤشرات البورصات حول العالم، يستدعي استبدال الأرقام في المصارف بممتلكات عينية محسوسة. منذ بداية الرأسمالية يميل المال الى تملّك العقارات، الخاصة والعامة، المنقولة وغير المنقولة. مع كل أزمة مالية هناك أزمة عقارات. بالطبع، تتمنى الرأسمالية تملّك الأرض دون غاباتها، لذلك تكثر الحرائق، وتزول الكثبان الرملية في البحر التي تحمي الشواطىء، تسهيلا لتخريب الشواطىء.
اعتبرت الفلسفة قديماً أن الدين للعامة والفلسفة للخاصة. السياسة كانت هي ما يراه الحاكم، وكل حكم كان استبدادياً، وكل استبداد يلغي السياسة. في العصر الحديث يقبض الدين، عندنا، على السياسة. يمنع تطورها. يمنع دخول الناس في السياسة، علما بأنه لا يستقيم أمر السياسة دون استيعاب الناس لها، واستيعابها في الناس. حتى لو صار الحكم الديني ديموقراطيا، فإنه بحاجة الى إشراف رجال الدين وأصحاب العمائم. هؤلاء أدخلوا السياسة تحت عباءة الدين، ويعتبرون أنفسهم العارفين وحدهم بإرادة الله. وكل ما يقولونه يجب أن ينسجم مع إرادة الله التي هي في الحقيقة إرادتهم هم. هم يكرهون الصوفية لأنها تنافسهم، إذا تعتبر الوصول الى الله هو الفناء فيه؛ ليس معرفة الله بل الفناء فيه. مجتمعات لا مكان فيها للمعرفة، ولا سعي وراء علم مجهول في الطبيعة. لا لزوم عند جميعهم سوى لاستخدام منجزات المعرفة التي أنتجها الغرب لاستخدام تقنياتها في الصراع مع دول أخرى. مستهلكون للتكنولوجيا. بل مستهلكون للمعرفة وحسب. بقاء في التخلّف. المجتمعات التي تتخلى عن المعرفة محكومة بالتخلّف. فصلوا بين الدين والمعرفة (الحديثة)، فجردوا مجتمعاتهم من إمكانيات التقدم. لو شاؤوا المزج بين دين سوي ومعرفة حقيقة لكان لهم شأن آخر. المجتمعات الحديثة التي تنتج المعرفة لم تتخل عن الدين، بل فصلت بينهما كي تفصل الدين عن السياسة، ووضعوا الدين في خدمة السياسة، أي في خدمة الإنسان. الدين مع الجهل بالمعرفة الحديثة، ومع التخلي عن السياسة، هو في الحقيقة ظلم للناس وإبقاء البشر في أوضاع ما قبل الحداثة. الأديان الخلاصية، فيها خلاص في السماء، ليس فيها خلاص على الأرض. لا يعنيها إذا كان معظم البشرية غارقين في فقر مدقع. الأبصار موجهة الى السماء. لا يعنيهم من شأن الأرض سوى السيطرة على شعوبهم. ليست الديموقراطية في دولة دينية هي ذات معنى دخول الناس في السياسة. بل معنى احتكار السلطة الدينية للسياسة؛ وفي النهاية إلغاء السياسة بمعنى الناس وإرادتهم. السياسة لا تكون، لا توجد، إلا في مجتمع مفتوح تكون القيمة فيه للأفراد وضمائرهم وحركاتهم ونقاباتهم. المجتمع المغلق لا ينتج سياسة. المجتمع المغلق ينتج تخلفاً، وهو على أية حال تناقض في ذاته. لم يعد ممكناً الانغلاق في عصرنا هذا. وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على علاتها تفضح.
مشكلة المجتمعات الإسلامية أن المزاج الديني هو الغالب وأن السياسة تقبع تحت عباءات رجال الدين. لم يكن الأمر كذلك عبر التاريخ، ولن يكون كذلك في المستقبل، هذا إذا أردنا أن نخرج مما نحن فيه. وما نحن فيه هزيمة كاملة.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق