تسنى لي أن التقي الامام روح الله الموسوي الخميني، اول مرة، في اوائل العام 1979 في ضاحية “نوفل لي شاتو” التي تبعد حوالي اربعين كيلو متراً عن باريس، عاصمة فرنسا.
كانت حكومة شاه إيران قد مارست ضغوطها على الكويت، بعد انتقال الخميني اليها من النجف في العراق الذي كان يحكمه صدام حسين تحت مظلة خاله المشير احمد حسن البكر.
قصدت “نوفل لي شاتو” يصحبني الصديق والزميل المصري محفوظ الانصاري، الذي كان قد غادر مصر ليعمل ملحقاً صحافيا في سفارة قطر في باريس، والزميلة حميدة نعنع التي كانت مراسلة “السفير” في باريس، آنذاك، والأخ الايراني المتزوج من لبنانية والذي عرفته في بيروت كداعية للثورة محمد صالح الحسيني.
قبلت فرنسا الامام الخميني كلاجئ سياسي، وسمحت له باستقبال المريدين ومن يطلب لقاءه من الصحافيين بغير قيود او رقابة.
كانت الزيارة الأولى لاستكشاف المكان والجو المحيط بهذا الامام الذي يرتدي الاسود ويؤم الصلاة بمن يقصده من المناصرين، في بيت سطحه من قرميد يقع فوق طريق فرعي يفصله عن منزل الامام العجوز الذي سيغدو بعد شهرين او اقل واحداً من قادة ثورة عظيمة طردت شاهنشاه إيران من قصوره، تمهيداً لتغيير مسار التاريخ (والجغرافيا) إلى حد ما في منطقة الشرق الاوسط جميعاً.
في اليوم الثاني عدنا إلى نوفل دي شاتو على موعد مع الامام الخميني.
بعد صلاة الظهر، صحبنا اليه في بيته بعض مرافقيه، فجلسنا في الغرفة بسيطة الرياش، قبل أن يدخل علينا، فتقدمنا نقدم أنفسنا وهو يهز رأسه متمتاً ببعض كلما الترحيب.
اتخذ مقعده فوق “طراحة” على الارض، وجلسنا ارضاً من حوله نستمع إلى ترحيبه بالعربية المثقلة بالنبرة الفارسية: السلام عليكم في هذا البيت المستعار مؤقتا..
قلنا: نأمل أن نراك في طهران التي تنتظرك.
رد مع ابتسامة قصيرة: أن شاء الله.. سنرحب بكم هناك أفضل ترحيب. في بيتك حرارة لا تتوفر لك في أي مكان بعيد عنه.
كان سؤالنا الاول: تنادون بالجمهورية الاسلامية في ايران. تتعمدون بهذا التوكيد على هوية ثنائية، والاسلام سابق على إيران.
قال بهدوء: هذا للتأكيد على الهوية السياسية والدينية لهذه الجمهورية..
سألنا بحذر: تخفيفا من هوية الفرس..
رد بالهدوء ذاته: بل للتأكيد على ما يجمعنا بمحيطنا وعلى ايماننا بالدين الحنيف.
ثم استدرك فقال: هذا لا يلغي هويتنا القومية، في أي حال..
قال احدنا، متخابثاً: ولكن اصولك عربية..
رد بهدوء: الاسلام يغلب..
مضينا في الحوار، وتقصدنا أن نتوقف امام مراعاة تسمية الخليج العربي بالخليج الفارسي.. رسم نصف ابتسامة على شفتيه وهو يقول: اليس هذا هو اسمه.. هي الجغرافيا..
قلنا: اما نحن فنسميه الخليج العربي..
لمحنا طيف ابتسامة قصيرة على شفتيه، ثم زادت اتساعاً ومحفوظ الانصاري يقترح: سماحتك، فلنسمه الخليج الاسلامي، وهذا يُرضي الجميع.
اتسعت ابتسامة الامام الخميني للحظة، قبل أن يستعيد وقاره.. العابس.
انهينا الحوار مع رفع بعض جماعة الخميني الآذان لصلاة الجمعة..
وقام فقمنا معه إلى الصلاة امام البيت الاخر، فوق الطريق..
وقف في المقدمة يؤم الصلاة، ومن خلفه جمع من المصلين يرطنون آيات القرآن ومتممات الصلاة بالعربية، ونحن مبتهجون: لقد غلب الاصل الفرع.
أما تتمة الحوار فيمكن قراءتها مفصلة، بعد شهرين، في لقاء أكثر حرارة لأنه تم في مدرسة الروضة في قم، والامام الخميني العائد منتصراً إلى بلاده يؤم آلاف الآلاف من النساء معظمهن من الصبايا في حرم المدرستين الدينيتين اللتين أسقط جمهور الوافدات الحواجز الفاصلة بينهما، بينما الامام ـ القائد، الآن، يتأمل المشهد بطرف عينيه الثاقبتين.
وللمرة الثانية اشهد بعيني ذوبان الثلج في قم، بعد العودة، كما اذابه حضور الخميني في ضاحية نوفل لي شاتو قرب باريس..