طلال سلمان

الله ليس يهودياً ولا غربياً

هذا زمن اجتثاث الإنسانية من جذورها. الغرب برمّته ارتكب حضارة مشوّهة بأخلاقيات التفوق وديموقراطيات الاعتداء وقيم الرأسمال المتوحش. هذا زمن كشف زيف التحضّر الغربي وشناعات الحروب والاجتياحات والإبادات. فعلاً، أثبت أنه متفوق في تأبيد الانحطاط في مستعمراته واجتياحاته، مُروِّجاً لثقافة التفوق والإبداع، ومُبدّداً لشعوب وثقافات وثروات، تنتمي إلى عالم، يدعى “الثالث”، وهو أكثر من ذلك تراجعاً.

غزة، رافعة الحق والعدل والإنسانية. ثبت أنها قبضة حق وروح إنسانية. دماؤها مجد لها. شهداؤها “أنبياؤها”. ثروتها دماؤها.. وغدها على مرمى إيمانها.. وإنها على مسار مستقيم. وفي مقارنة بين غرب يتشدّق حقوقاً وديموقراطية وتقدماً وإنجازاً وثقافة وأزياء وسلاحاً واجتياحاً، وبين “غزة العظمى” برغم صغر مساحتها واتساع جغرافيتها الإنسانية، نفخر نحن الغلابى، الضعفاء، المهانين، المسروقين، المروَّعين، أننا ننتمي إلى قارة غزة العظمى، وحقها يستحق لقب المقدس، بخاصة أن أكثر “المقدسات”، تنتمي إلى حثالة المدنسات.

لم يعد مفيداً التعويل على الإعلام. على شاشات اللصوص الذين يتصدرون عار الإبادة. هذا الكم الساحق للوقائع والنزف المقدس للشهداء، بات ممنوعاً. شاشات للعميان أخلاقياً فقط. وعليه؛ كل الحقائق والحقوق الحاسمة والبائنة، يتم استعمالها كسلاح أو كقناع أو.. كمنصة لحثالات “الحضارة المصابة” بحثالات الطاعة.

الثقافات في الغرب قناع وسلعة. تطورت لتصير المرشد “الأخلاقي” لأسلحة الإبادة. لا سبب يدعو المؤمنين بالحق والمنتمين إلى الشهداء الأحياء لكي يتخلوا عن إنسانيتهم. إنسانيتنا في غزة ناصعة. خارجها، تزدهر السياسات الفاحشة؛ التصريحات العاهرة؛ الأكاذيب المترهلة؛ الوقائع المزورة.. وأكثر وأفدح من ذلك، الاختباء خلف صفاقة لصق صفة الإرهاب بمقاومي غزة.

العار الغربي لا يحتاج إلى برهان. السفلة هؤلاء، وقفوا على منصَّة سبعة أكتوبر، واستحضروا شياطين الإعلام الغربي برمته حتى راح العالم كله يعلك صفة “الإرهاب”، ويُلصقها بضحايا الإرهاب الصهيوني الغربي؛ بالشعب الذي سُرقت أرضه، وطُرد من منازله، وتبدَّد في خيام البؤس.

كل الشعوب لديها بلاد إلا الفلسطيني. إنّه ممنوع عن أرضه منذ ثلاثة أرباع القرن. والسبب في ذلك، فحش الغرب وعنصريته الفائقة.. الغرب كان بحاجة إلى منصة وموطىء قدم وأسواق تجارة وخنادق قتال وجبهات مستعرة، ليستمر في الإخضاع، ولقد حصل ذلك.. وفي مسار الاتباع، ولقد حصل ذلك أيضاً.

الكم الساحق من الارتكابات الصهيو-غربية يؤكد على فقدان الغرب أية إنسانية مفترضة. فاصل ضروري؛ لا وجود لإنسانية في السياسة والتجارة والاستعمار. الغرب كله، يعيش على أخلاق وقيم منخورة وتجارية وادعائية. ولكنها مُهدّدة بالذبول والذوبان.

صح. إننا لا نشبه بعضنا البعض. مستحيل أن نكون أسوياء. هناك تاريخ حافل بالصراع الدموي والاحتفالات الإبادية؛ يصح اتهام شعوب وقبائل التاريخ، أنّهم كانوا همجاً في حروبهم القبلية والدينية. إنما، وهذا هو بيت القصيد، فإن حروب القرن العشرين “الحضارية”، وحروب اجتياحات القرن التاسع عشر الاستعمارية، وحروب القرن الراهن الإبادوية، كُلّها تدل على أن محصلة حروب الأزمنة السابقة، ورثتها دول الغرب الحضارية.

كذب وتلفيق وادعاء. الغرب يشبه أولئك الهمج الما قبل التاريخ. الغرب تأسّس على حروب متناسلة. كان يهدف إلى إعادة تأسيس العالم ليتملّكه، وفق قواعد الغلبة والاتباع بل والإلغاء. وفي ما بعد، بعد أن استقر في ما تسمى “الحضارة الجديدة”، خسر عصر التنوير ما أبدعه فكرياً. داس القيم. احتكر الحرية وعم الاضطهاد. ادعى السلام وأنجب حروباً عالمية. شرَّع حقوق الإنسان ولكنه غلب لغة المصالح بالممارسة. رأينا أجمل النصوص تُداس. وتدريجياً ازدهر الطغيان الدولي، وصار سلوك الإخضاع مُعمّماً. قام الغرب بارتكابات مشينة. مارس أحط الأخلاق، وكان دينه المقدس، تكديس الثروات وتشليح الشعوب المنكوبة خبز حياتها.

لقد بدا للكثيرين في القرن العشرين، أن تحسين العالم خرافة. وإعادة ترسيخ الدول على العلم والقيم بات من المستحيلات.

هذا زمن غربي. خافوا أيها الناس. إن معظم ما يحصل في العالم، هو نتاج ثقافة الاجتياحات، والنهب، ورأس المال والتسلط.

هذا العالم بحاجة إلى مراجعة. وتحديداً، بعد ظهور عالم جديد كلياً، عبر انتفاضة ومقاومة غزة.

لا مبالغة البتة. أثبتت قارة غزة الصغرى، أنها جديرة بالبقاء والتقدم. قدّمت نموذجاً ريادياً، في الإنسانية والقتال والتضحيات. برهنت على صبر شاهق، إزاء غرب يطرب لأصوات القصف واستغاثات الجرحى وأحزان الأيتام والأرامل.

ثقوا أن غزة، عاصمة للشعوب وليس للحكومات، غربية أم عربية. الشعوب، على مدار الكرة، انتمت بنخبها وطلابها وعمالها ومنتجيها إلى فلسطين.. لم تُصدّق هذه الشعوب الأضاليل.. كذَّبت بحناجرها وأقدامها، من اعتبر حماس إرهابية. امتلأت الساحات والشوارع والجامعات بملايين لا بل بعشرات الملايين من الناس. من كل الألوان والأديان والثقافات..

غزة عاصمة كونية.

هذه الصغيرة.. تحوَّلت إلى مارد.

هذا الصبر وهذه البسالة.. علّمت الجميع؛ “أن الباطل كان زهوقا”.

ثمة حاجة إلى كشف عورات الغرب الحضارية مقابل حضرة العرب المنفتحة. هذا الغرب، برهن خلال مئات الأعوام، أنه كان عنصرياً جداً. وأول ضحايا ذلك الغرب المديد، هم اليهود. ففيما كان اليهود يعيشون بسلام ووئام في المجتمعات العربية، بحيث كانوا يمارسون عقيدتهم الدينية، ويقومون بإحياء التجارة من أفغانستان إلى طنجة، فإن تاريخ الغرب مع العرب كان إقصائياً وإذلالياً.. وتاريخ الغرب مع اليهود أسوأ بكثير. كنايات فاحشة جداً وسلوك مهين بحق اليهود. فولتير اعتبر اليهود جهلة بالمطلق.

البغض المسيحي لليهود كان مستشرياً. صورة اليهودي مشوّهة عمداً.. اعتبرت أن اليهودي جسم غريب ومخرب، يعبد المال ويتاجر به.. وهو قاتل المسيح، وعليه، فلا بد من التشنيع به.

والمؤسف والغريب، بل والحقير جداً، أن شعراء وفلاسفة الغرب، تعاملوا معنا كعرب على أننا شعوب بدائية وهمجية.

جول فيري، مرجع فرنسي بارز يقول في البرلمان الفرنسي: “ينبغي أن نقولها بكل صراحة: الأعراق العليا تقع على كاهلها مسؤولية تجاه الأعراق الدنيا.. تحقيرها ونقلها من الهمجية إلى الحالة الحضارية”.

أخس. هذا جاهل ومتعصب. فالاستعمار يا مهذب هو أكبر ضمانة للتنوير الذي رفع شعاراً في الغرب.

ما رأيكم بمونتسكيو؟ هاكم ما قال عنا وعن الأفارقة: “انه لمن المستحيل أن تعتقد أن أشخاصاً من هذا النوع هم بشر”.. يا ابن الـ…طة، من تكون أنت يوم كانت الحضارة العربية تحتضن الشعوب والأقوام؟

أما أنت يا فولتير، فعندما قرأتك لم أتمالك نفسي في أن أناديك: “يا حيوان”.

يقول هذا العنصري “عيونهم المدوّرة، أنفهم الأفطس، آذانهم المختلفة، صغر دماغهم.. هؤلاء، سيظلون ينجبون حيوانات على أشكالهم”.

أما كانط العظيم، فيصف اليهود بأنهم مرابون ونصابون وغشاشون.. أما فولتير الثوري فيقول: لا يوجد شعب حقير كهذا الشعب على وجه الأرض (يعني اليهود).

هل نسرد بعد مخازي مفكري عصر النهضة حتى أواخر القرن التاسع عشر. ساد في الغرب ما يلي: “انه شعب الخرافات. جشع لأرزاق الآخرين. همجي”، علماً أن الهمجية المدنية الأنيقة ممتلئة حقداً وعتواً وعدواناً. لقد بلغوا في عنصريتهم مقام الأولوية؛ “اليهود هم أعداء الجنس البشري”.

ولم يوفر الفكر الغربي المسلمين. يقول شاتوبريان: “الإسلام كله جهل وجحود مدى الحياة”.. أما اميل زولا فيقول: “المسلمون متعصبون بطبيعتهم وجوهرهم”؟ أخيراً، يتفوق أرنست رينان في عنصريته فيقول: “بالنسبة إلى العقل البشري فإن الإسلام لم يكن إلا هزراً”.

الغرب الأميركي والأوروبي، ليس عنده دروساً يعطيها لنا؛ وعليه، فليتعلم العالم راهناً، دروساً من غزة. هي قطعة صغيرة من هذا الكوكب. صارت كوكباً إنسانياً، يؤمن به بشر بعدد حبّات الرمل.

يقول نيتشه: “الشاعر الذي يتقن الكذب عن وعي ومعرفة، وحده القادر على قول الحقيقة”.

ماذا بعد؟

حسابنا مع الغرب المتصهين، يقف عارياً خلقياً، أمام شعوب قرّرت الانتماء إلى قيم الإنسانية.. لا شيء يعلو على حقوق الإنسان وقيمه.

غزة نموذجاً.

التاريخ فتح لها مهداً جديداً.

Exit mobile version