تمر بنا، الكتابة وأنا، أيام صعبة. اجمع بين الاثنين لأنني وبالحق ورغم جهود فشلت في الفصل بينهما، فشلت على الأقل في المرحلة الراهنة.
حاولت العثور على إجابة على سؤال كثيراً ما تردد في أذهان كاتب أو آخر امتنعت عنه الكتابة، أو امتنع عنها. أما السؤال فكان ولا يزال، من منا المسؤول عن هذه الحال الغريبة والاستثنائية، حال النفور بين الكاتب والكتابة. أهي الكلمات أم الكاتب، الكلمات إذا تدللت أو عاندت أو اختارت الكيد تعاقب به كاتبها، أم هو الكاتب إذا تاه في دروب الفكرة أو أفاق على غضب وخيبة آمال وعلى آلام لا تحتمل، أو اكتشف أنه صار وحده أو مع غيره خارج السياق، أو غامت به الأيام فلم يعد يرى تفاصيل الأشياء والوجوه وكاد يفقد القدرة على التمييز بين الأصلي والمزور وبين الصدق والكذب وبين الواقع والخيال وبين إنسان وروبوت.
***
كنا نتحدث في مجلس جمع بعضا يكتب ويقرأ مع بعض يقرأ ولا يكتب. قال زميل من دولة في أقاصي شرق العرب “يحدث عندكم ما يحدث عندنا. كلنا نواجه ظاهرة تتفاقم ولا حل جاهزا. كثيرون في هذا المجلس وخارجه لا يدركون أهمية وخطورة ما يحدث عندنا وعندهم. أقصد المأزق الذي تمر فيه الطبقة السياسية وحال ما يعرف بالنخبة في معظم الأرجاء العربية. لا شك أنكم تلاحظون الزيادة المتتالية في عدد من تخرجه جامعاتنا من شباب، رجالا ونساء، من كليات تتخصص في تدريس مواد تؤهل الخريجين لعضوية في الطبقة السياسية. آلاف وآلاف في العالم العربي ينضمون سنويا، بينما المفترض لضمان مستقبل معتبر لمجتمع في دولة ناهضة أن تكون هذه الطبقة في حجم يناسب المهام التي دربت لتحقيقها والتي من أجلها حصلت على صفة ومكانة “النخبة أو الصفوة” تمييزا لها بين مختلف فئات الأمة. الأمر جد خطير. مهام تتطلب لتنفيذها خبرات في مجالات إدارة المجتمعات وتسوية النزاعات الطبقية قبل استفحالها وتوفير القواعد اللازمة لضمان الأمن المجتمعي في الداخل كما ضد تهديد الخارج بنوعيه، التهديد القادم من الكوكب الذي نعيش فيه والتهديد الذي تمارسه كيانات فضائية استقرت بالفعل في قواعد خارج الكوكب. تعالوا ننظر من حولنا ومن خلال ما جرى خلال العام المنصرم، ننظر ونقرر هل كانت الطبقة السياسية المهيمنة على دولة عظيمة مثل المملكة المتحدة، أو بالأحرى هل كانت النخبة الحاكمة في دولة أعظم مثل الولايات المتحدة أو في روسيا تتسم بالكفاءة الواجبة لمواجهة هجوم فيروس الكوفيد لمجتمعاتها. الواضح أن ضخامة حجم هذه الطبقة في كل هذه الدول وقف عائقا في وجه تنفيذ خطة محكمة للفوز في معركة التصدي لهذا العدو الخفي. المطلوب يا أصدقائي الأعزاء التخطيط لتشكيل نخبة سياسية جديدة بتركيز حقيقي على الجودة والكفاءة والتوقف عن ضم خريجين وأشباه سياسيين لا يناسبون الحال الذي تأمل المجتمعات النهوض نحوه، النتيجة تدهور ثم مزيد من التدهور، تفاقمت الأمراض وتعددت أسباب ودوافع الفشل والتخلف. الآن وعلى امتداد عالمنا العربي صرنا نصدر للصفوة السياسية أعدادا بلا حصر ولا ننتج لها كفاءات ومؤسسات”.
***
أين مأزق الكاتب هنا؟ الكاتب مهمته الوصف والتحليل والنقد وتقديم الحلول في حدود ما اتيح له من معلومات من جانب الطبقة السياسية. هذه الطبقة التي حظيت بشرف المسؤولية ولم يتوفر لها التدريب الكافي والتركيز المناسب بسبب تضخمها وتزاحم أفرادها على وظائفها وامتيازاتها. لم تتدرب في أحزاب سياسية أو نقابات حرة أو في مؤسسات عتيدة حتى صارت المعلومات يأتي بعضها إلى الكاتب غير ناضج وغير مترابط أو متكامل، أو يأتي متلونا بلون الشخص عضو الطبقة السياسية الناقل للمعلومة، وأحيانا أو كثيرا ما يصل متناقضا مع معلومات أخرى تفرج عنها بين الحين والآخر شخصيات أو مجموعات في نفس الطبقة غير معروفة نوازعها وأغراضها.
***
نبهنا صديق من لبنان إلى واقع كان فريدا ولم يعد كذلك. نشأنا في مجتمعات يصعب جدا الفصل فيها بين فئات وتراتيب الطبقة السياسية. تعودنا على أن يتداخل الديني والمدني أو الريفي والمديني أو القادة وأعضاء عائلاتهم أو العسكري والسياسي في تشكيل هذه الطبقة التي يفترض أن تخرج منها أو تتخرج الصفوة. كان الظن ونحن شباب نحلم بالتقدم المتسارع أننا سوف نبلغ ما رغبنا في تحقيقه بعد القضاء على هذه الظاهرة التي تجسد بجانبها أو في ثناياها ظواهر أخرى ليس أقلها أهمية الفساد والمحسوبية وظاهرة تراوح موقف الطرف الواحد في مسيرته تراوح سنون المروحة، وظواهر تفضح يوميا ممارسات تكشف عن عجز الإدارة الحكومية وعن الاختراق الرهيب لعمليات صنع القرار السياسي. صارت النخبة بفضل اتساع وكثرة ثقوبها مخترقة وغلب على معلوماتها المزيف قبل الحقيقي والخاص قبل العام والأجنبي قبل الوطني. وفي أكثر من بلد عربي ارتخت الطبقة السياسية حتى تهاونت في حماية حقوق الوطن والشعب، تهاونت ثم تخلت عنهما لغرباء لا يرحمون.
***
يبقى في جانب من الساحة مواطنون كانوا يكتبون. هم الآن لا يكتبون. يزعمون، وهم لا يكذبون، أنهم فقدوا الأهلية للكتابة بعد أن عزت الفكرة وغاب القارئ واختلطت الدروب في الأذهان وأصاب التشوش مفاهيم عديدة. هناك أمل. فالكاتب لم يرحل ولن يغير جلده، وفي الوقت نفسه يعرف أنه لن يجيد الأداء في شيء كما يجيد الكتابة. الكتابة أيضا في الانتظار.
ينشر بالتزامن مع مع موقع الشروق“