من حق الملك حسين أن يشعر »بالحزن والألم« نتيجة »ثورة الخبز« التي تفجرت كما كان متوقعاً انطلاقاً من جنوب مملكته الفقيرة، وامتدت إلى العاصمة التي يوحي مظهرها الخارجي »بترف« يناقض واقع أهلها الذين أغنتهم الحرب ثم أفقرتهم الحرب، وفي الحالين كان العراق، ومن بعده الخليج، مصدر الثراء السريع وسبب الاختناق البطيء.
ذلك أن الملك ألمح، (ثم أكدت أجهزته) إلى أن محركي تلك الثورة في أفقر مناطق المملكة البلا موارد، يتوزعون بين مناصري بطل تجويع العراقيين إلى حد بيع أطفالهم، صدام حسين، و»الجهات اليسارية« التي لا يجد المكابرون من الباقين في عضويتها ما يأكلونه!
… فإذا كان صدام حسين »أقوى«، في النصف الأخير من آب 1996، وفي الكرك والمزار والطفيلة ومعان، تحديداً، من الملك حسين فأين تراها قوة العرش الأردني ومليكه المستمر في الحكم، بالاستناد إلى هؤلاء بالذات، منذ نصف قرن إلا قليلاً؟!
.. وإذا كانت »جهات يسارية« تستطيع اليوم، وبعد سبع سنوات من انهيار الاتحاد السوفياتي و»أمبراطوريته« الشيوعية، أن تأخذ من الملك العشائر، بأفخاذها والبطون، في المنطقة التي كانت الركيزة الأولى لإمارة الجد، عبد الله، والتي والى أهاليها الهاشميين وهم مهزومون ومطرودون من الحجاز، وصاروا ملكيين من قبل المملكة…
إذا كانت مثل هذه الاستنتاجات (أو الاتهامات) صحيحة فمن حق الملك أن يشعر بما هو أقسى من الحزن والألم: بانتهاء دوره والعرش،.. ويصبح مفهوماً أن يطلق تحذيره بالضرب »بيد من حديد على هؤلاء الذين يضعون البلاد في مفترق طريق: فإما الدولة وإما الفوضى والخارجون على القانون«!
ولكن… أليس أهالي الكرك والمزار والطفيلة وعمان هم الذين كانوا، على امتداد سبعين سنة أو يزيد، هم »اليد الحديدية« لهذا العرش الذي ابتُدع أولاً ثم استقطعت له الأرض والرعايا؟!
على أن الملك يكاد يكون وحيداً في استنتاجاته حول »محرّكي« ثورة الخبز، التي تحاول أن تنفي عنها أي طابع سياسي، وتريد أن توحي بأن لا صلة لها بالأزمة الوطنية العميقة التي ترج المملكة منذ »التتويج« الرسمي للعلاقات التاريخية الحميمة بين الملك وبين إسرائيل، بغض النظر عن أشخاص حكّامها، باتفاق وادي عربة الذي كان الشاهد على توقيعه الرئيس الأميركي بيل كلينتون قبل سنتين.
غير الملك يقول غير هذا،
فالأردنيون، بمجموع قواهم السياسية، بما في ذلك بعض أطراف السلطة، وكذلك »الأصدقاء« الإسرائيليون، والعرب عموماً، والأوساط الدولية، كل أولئك يعرفون أن صاعق التفجير للوضع الأردني المأزوم إنما يكمن في الصلح بالشروط الإسرائيلية الذي كان الملك السبّاق إلى عقده وإن تأخر إعلانه إلى ما بعد توقيع ياسر عرفات على اتفاق أوسلو، لكي يتخذ منه الملك غطاءه الفلسطيني الضروري جداً..
ومع أن إسرائيل تعلن بلسان قيادييها وصحافتها أنها »لا تخاف على نظام الملك حسين الذي عرف كيف يواجه أوضاعاً أكثر صعوبة«، ولكنها ترى أن عليها واجب »مساعدة الأصدقاء«، وخصوصاً أن هذا النظام كان الأكثر التزاماً بعملية السلام«…
كذلك فهي تجهر بحقيقة الأسباب الكامنة وراء التفجر: إنها الاستياء من الأوضاع الاقتصادية، وخيبة الأمل في نتائج عملية السلام، وتورط حكّام عمّان في إعطاء شعبهم آمالاً غير محسوبة، وإيهامهم بمكاسب فورية لاتفاق السلام،
ثم إن الإسرائيليين يعترفون، صراحة، أنهم لا يستطيعون أن يقدموا مساعدة تذكر لتحسين الوضع الاقتصادي في الأردن.
* * *
هي مواجهة، إذاً، بين العرش وجمهوره الطبيعي،
هي مواجهة بين الجيش وبين أهله المباشرين،
فمنذ زمن بعيد، يتجاوز العقدين، انسحب (أو سُحب) العنصر الفلسطيني من الحياة السياسية الأردنية، ثم قنَّن الملك هذا الانسحاب أو الشطب عندما استغنى عن خدمات الوجوه الفلسطينيين في رئاسة الحكومة وفي المواقع الحساسة داخل الحكومة والادارة إجمالاً، بما في ذلك وزارة الخارجية، مستبقياً للفلسطينيين منصب »السفير في إسرائيل« ليكون »شريكاً«، ولو ثانوياً، في الأمر المعترض عليه،
وشهيرة هي »إقالة« طاهر المصري من رئاسة المجلس النيابي بينما هو غائب أو »مغيّب« بالاتفاق، عن البلاد، لتكتمل »أردنة« الحكم بمواقعه المدنية والعسكرية والأمنية، مع عجز عن إلغاء الفلسطينيين كعنصر مؤثر جداً، وربما متحكّم، بالدورة الاقتصادية في المملكة التي جفت مداخيلها الأسطورية بعد غزوة الكويت التي ضبط عرشها متلبساً بالتواطؤ مع صدام حسين فيها، والتي بالكاد قُبلت توبة مليكها سعودياً، قبل أيام، في حين ما يزال الكويتيون يرفضون مجرد الاستماع إليه.
هي، إذاً، مواجهة شرق أردنية مع الحكم الشرق أردني، بعيداً عن الفلسطينيين الخائبة آمالهم الآن في »سلطتهم« داخل منطقة الحكم الذاتي، والذين يحرصون على الاختفاء تماماً في لحظة التصادم بين أطراف الفريق الواحد الحاكم،
لكن ساحة الصراع الأساسية تبقى، برغم ذلك كله، سياسة العرش الإسرائيلية،
فالانفجار موجه أولاً إلى مشروع الشراكة مع إسرائيل، الذي طالما روّج له الملك، بوصفه الباب السحري الى الرخاء والازدهار والدور الإقليمي الكبير، والذي قدمه وكأنه غير قابل للتأثر بتبدل الحكّام في تل أبيب، لأنه عقد مع »الدولة الإسرائيلية« ذاتها يدوم بدوامها..
والانفجار موجه، من ثم، إلى السياسة التي أخذت الأردن بعيداً عن العرب، فكاد يتحول في القمة العربية الاستثنائية إلى عنصر تخريب، واندفع قبلها وخلالها وبعدها يروّج للزعيم الجديد للتطرف الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكأنه رجل السلام المرتجى، ومن ضمن حملته هذه امتدح مشروعه الفخ »لبنان أولاً«، مباشرة بعد عودته من دمشق، بينما القيادة السورية تواجهه وكأنه إعلان حرب شاملة ضد سوريا ولبنان معاً…
* * *
الملك هو الأول في أي سباق،
وغالبا ما كان الأول في الوصول الى الخطيئة الكاملة،
وقبل سنوات، وفي مواجهة اضطرابات مماثلة شهدها الجنوب التعيس نفسه، وجه العرش الى السعودية تهمة اثارة العشائر عليه،
اما الآن فالمتهم الأساسي هو بطل تجويع العراق ومعه اولئك الذين لا يجدون من يوفر لهم الخبر من »اليساريين« الاردنيين..
لقد كان العراق على امتداد ربع القرن الأخير مصدر الخبز والرفاه للعرش الاردني وبطانته وللاردنيين عموما،
كذلك كان العمل في السعودية وإمارات الخليج مصدر الرزق وقدر كبير من الثراء السريع لمئات الألوف من الفلسطينيين »المتأردنين« أو أبناء الأرض المحتلة، وقد اسهمت ثرواتهم بطفرة اقتصادية لا سند داخليا لها، تسببت في زيادة الحدة في الأزمة الاجتماعية، اذ رفعت اسعار الأراضي والشقق والخدمات عموما، فلما اندفع صدام حسين في غزوته الحمقاء جاء الانهيار الاقتصادي في الاردن ساحقا في سرعته كما في شموله،
لكن السبب الأساسي يظل سياسيا وعنوانه الاندفاع الجامح الى صلح مجاني مع اسرائيل، يعطي الأزمة الاجتماعية الاقتصادية بعدها الوطني الكامل فإذا اهل النظام يرتطمون به ويرفضون سياسته وان كانوا حتى هذه اللحظة يهتفون ضد الكباريتي ثم يقبلون خد الملك.
السياسة هي مصدر الانفجار، والخبز ليس اكثر من ذريعة شرعية،
فالمواطن الأردني، مثل أي مواطن عربي، يبحث عن الخبز مع الكرامة،
وكان يمكن ان تتأخر ثورة الكرامة قليلا لو ان الخبز متوفر،
اما مع القهر حتى بالخبز فكان لا بد ان تأخذ الثورة بعدها الاصلي: انها ضد السياسة الاسرائيلية للعرش الهاشمي، التي في ظلها استشعر كل مواطن انه خسر مع الكرامة الخبز، ولم يعد له إلا الشارع حتى لو كانت حركته محكومة بالفشل.. حتى إشعار آخر!