انتقل اللبنانيون من حالة الانكار التاريخية الى حالة الانفصام بين الطبقة الحاكمة وعامة الناس، وفي داخل كل فرد لبناني وكل طائفة. كانت حالة الإنكار الدائمة تعتمدها كل الطبقات والطوائف اللبنانية. تقوم على الاعتقاد أن اللبناني ذكي. أينما رميته يجيء واقفا على رجليه. رفعت ايديولوجيا الهجرة في لبنان الى نوع من التقديس. لم تكن في نظرهم هجرة موجات من الفقراء الذين انتهوا فقراء في بلدان المهجر، لكن بعضاً منهم راكموا ثروات كبيرة. هؤلاء تم اعتبارهم المثال الأعلى الذين يجسدون الذكاء اللبناني. اعتبرت الهجرة اقتحاما للأفاق. تعبيرا عن روح المغامرة لدى اللبناني. روح مغامرة هي في جوهر الحرية التي يتميّز بها اللبنانيون عن غيرهم، خاصة من العرب.
اقترنت الهجرة من لبنان بنظام اقتصادي لم يخرج منه البلد الى الآن؛ وما يزال يعاني صعوبة. هو حرية التحويل والسرية المصرفية. كان النظام صغيرا في زمن هيمنة قطاع الخدمات على الاقتصاد (قبل الحرب الأهلية وصعود بورجوازيات وطنية صناعية، وحتى زراعية).
نشبت حربان أهليتان. واحدة كانت شبه حرب أهلية انتهت سريعا بعد ستة أشهر باتفاق عبد الناصر والجنرال شهاب. بينما كانت الثانية واسعة ومدمرة، وامتدت من العام 1975 الى 1990. هذه الحرب أيضا لم تنته إلا برعاية عربية (سعودية-سورية)، وباتفاق الطائف.
في المرحلتين، عقب 1958، وعقب 1990، كان هناك شخصان تمتعا بنوع من الكاريزما والرؤية المستقبلية. المرحلة الأولى، جاء فؤاد شهاب الذي أرسى مؤسسات الدولة وأحرز انجازات عديدة على صعيد المشاريع. المرحلة الثانية، عقب اتفاق الطائف، كان رفيق الحريري رجل الإنجازات المادية. لكنه اغتيل عام 2015 ولم يحدث إلا القليل على صعيد الإنجاز بعده.
في الحالتين أنقذ اللبنانيين من أنفسهم تدخل خارجي. في المرة الأولى عبد الناصر. وفي المرة الثانية إجماع عربي ودولي، كانت نتيجته اتفاق الطائف الذي أدمج بالدستور. صار الحديث عن اتفاق الطائف دارجا لمن يقوم بتمارين عقلية حول الطائفية والنظام الطائفي. كان في لبنان، خلال المرحلة الأخيرة، نظام نيوليبرالي بدأ مع رفيق الحريري وتبناه الآخرون. مع حالة اعتراض ثقافية على مقولة الاقتصاد الريعي، والتي لم تكن جديدة. نتيجتها كانت دراسة اقتصادية لاستشاري أوصى بالانتقال من الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد الإنتاجي. كان القائلون بها يولغون في الاقتصاد الريعي حتى الثمالة. الى حد امتلاك جماعة منهم مصرفا من أجل المشاركة في الاقتصاد المصرفي الريعي.
اعتمد الاقتصاد الريعي (بعد ال2005 كما قبلها) على قروض ومساعدات عربية وعلى تحويلات اللبنانيين لأقاربهم من الخارج. في هذه الفترة تصاعد الدين العام، ونعم اللبنانيون يتحويلات من الخارج جعلتهم بعد أزمة 2008 العالمية يزداد إيمانهم بالتفوق والذكاء لديهم، وبأنهم غير بقية العالم، وبأن اللبناني بأمان مهما أصاب العالم الواسع والمنطقة العربية من أزمات.
جاءت الثورة العربية في عام 2011 لتشمل المنطقة العربية بمجملها، واستمر لبنان بالاستفادة من التحويلات الخارجية. أخيرا جاءت ثورة تشرين 2019، وأحست الطبقة الحاكمة من السياسيين والمصرفيين وجميع أهل السلطة بالخطر. هرّبوا أموالهم من لبنان لأنهم عرفوا ما كان سيصيب لبنان. لأنهم ساهموا في ذلك. جرى تهريب أموال الطبقة العليا (أقل من 1% من السكان) الى الخارج. وصادرت المصارف ما تبقى، وهو أموال أو ايداعات الطبقة الوسطى والصغيرة. عمليا، تملكت الطبقة الحاكمة بواسطة المصارف أموال اللبنانيين المصادرة. كثير من المصارف لم يكن لديها من الدولارات ما يلبي حاجات اللبنانيين، ولم يعلن إفلاسه أي واحد منهم. تلاعبوا مع المصرف المركزي بأموال اللبنانيين دون حق، بل بمخالفة للقانون والدستور.
انتقل اللبنانيون من حالة الإنكار الى حالة انفصام كامل بين الحكام والمحكومين. وهذا معنى شعار “كلهم يعني كلهم”، أي مواجهة طبقية كاملة. حالة الانفصام جرى فيها ليس فقط “اختفاء الدولار”، بل سوق سوداء للتعامل بالدولار. وظهر ثلاثة أسعار للدولار. واحد في البنك المركزي للمبادلات الرسمية والتجارية، وآخر بما يقارب ال4000 دولار لأصحاب الرواتب والمودعين الصغار، وآخر وصل أخيرا الى ما يقارب 15000 ليرة في السوق السوداء. اقتصر السوق السوداء على المعاملات المالية. كان معنى ذلك ارتفاع سعر الدولار بتسارع رهيب، وانخفاض سعر الليرة حتى لا يكاد التجار يعرفون كيف يستوردون بضائعهم. الهدف من مصادرة ودائع اللبنانيين وارتفاع الأسعار الجنوني كان سرقة ونهب أموال معظم اللبنانيين، وتفاقم الأزمة المعيشية، وإصابة اللبنانيين بالمجاعة كي يبيعوا أملاكهم بالرخص، وكي تبيع الدولة أملاكها بالرخص. عملية نصب كاملة تمارسها الطبقة العليا بجميع أطرافها. بالطبع لا تتحدث الطبقة الحاكمة بجميع فروعها عن النصب بل عن الاقتصاد الريعي الذي ساد لبنان في الثلاثين سنة الماضية. وهذا يتضمن إلقاء اللوم على الأساس وهو اتفاق الطائف، متناسين أن هذا الاتفاق لم يعد موجودا بعد إدراج مواده في الدستور.
تتحدث أحزاب السلطة عن الانهيار وكأنه حصل نتيجة سياسات الثلاثين سنة الماضية. المهم بالنسبة إليهم تصوير رفيق الحريري وكأنه الطاغوت وأساس علل لبنان. يتناسون أنهم كانوا هم المسيطرين على السلطة خلال السنوات ال15 الماضية، وأنهم لم يفعلوا شيئا بخصوص قطاع الكهرباء سوى استئجار باخرتين تركيتين مزودتين بمولدات كهربائية؛ كلفتهما عالية. وقفوا حائلا ضد بناء محطات إنتاج كهربائي جديدة، علما بأن محطتي البداوي (دير عمار) والزهراني مصممتان للتوسعة. التوسعة لا تتطلّب وقتاً (ربما بضعة أشهر) لمضاعفة إنتاج الكهرباء في لبنان. تناسوا جميعا أن الكهرباء تأمنت في لبنان في العامين 1997 و1998 بنسبة 24 ساعة على امتداد الأسبوع والشهر والسنة.
طبعا يتجاهل جماعة السلطة أنهم كانوا هم المسيطرين على لبنان، ومن ضمنه الكهرباء خلال أكثر من 15 سنة، أي نصف المدة التي يفترضون العلة فيها.
الحالة في لبنان شبه مجاعة. يمكن أن تتطوّر الى حالة مجاعة مخيفة. كل نشرات الأخبار المسائية هي أشبه بأوراق النعوة. نشهد دفن لبنان الذي نعرفه والانتقال الى حالة يأس كاملة تتم فيها مصادرة أملاك وأصول الدولة اللبنانية. طبقة لبنانية لم تتحمل يوسف بيدس وامبراطوريته المالية، التي ما زال أملاكها مصدر دخل كبير لقطاع من اللبنانيين، رغم إفلاس شركة انترا المالية قسرا.
تسمى المرحلة التي نمر فيها “نزع الملكية عن طريق المصادرة”؛ نزع ملكية القطاع الخاص والأملاك العامة بما في ذلك الأوقاف. العملية جارية التنفيذ من أكثر من 15 سنة، لكنها تفاقمت في هذه الفترة الأخيرة. لم يكن هم الطبقة الحاكمة السياسية والمالية تحقيق انجازات مادية (الكهرباء أولا، والطرقات، وجر المياه، والمرافق العامة من المطار الى المرفأ الذي دمرته ودمرت ما حوله). يقول جماعة السلطة والعهد ” كنا ننوي العمل لكنهم (أي الخصوم السياسيون) منعونا”. كانوا وما يزالون يعنون لا انجازات تتعلق بالبنى التحتية والاقتصاد بل سلخ وامتلاك أراضي وعقارات اللبنانيين، بما فيها أملاك الدولة والمشاعات والأوقاف. خلال ذلك تتلاشى الطبقة الوسطى، وينزل مستواها المعيشي الى البروليتاريا، وهذه البورليتاريا رثة، ومعظم الشعب اللبناني الى دون خط الفقر المدقع. المجاعة صارت بوادرها حقيقة، بل هي بدأت بقوة.
إنشاء سوليدير كان درسا في نزع أملاك الناس في سبيل الاعمار. ما يجري هو سلخ أملاك الناس والدولة لتصير كل الأملاك بيد الطبقة الحاكمة. غير معروف الهدف الآن سوى زيادة الثروة لدى الأثرياء. من يستطيع شراء هذه الأملاك دون أن يكون لديه أموال مكدسة في لبنان والعالم؟
الصراع على تأليف الحكومة هو صراع على السلطة. السلطة لمن يقبض على أموال الناس والدولة بعد سلخ الأموال المنقولة وغير المنقولة عنهما. لم تعد السلطة مسألة وجاهة، أو الأولوية فيها للوجاهة. ولت أيام كان السياسيون فيها يدفعون ثمنا للوجاهة. مع تفاقم اللنيوليبرالية وارتفاع المال الى ما هو ذو القيمة العليا، وربما الوحيدة، صار الجشع والطمع والكسب عن طريق القوة والقمع والإكراه طريقا للتملك ولو كان ذلك بالسيطرة لسلخ أموال وأملاك الناس عنهم دون مقابل أو بأسعار زهيدة. يقولون “صراع كسر عظم”. تدخل فيه القوى المحلية والاقليمية والدولية. ليس الصراع على ما نهب أو هرّب للخارج؛ هو على ما تبقى في لبنان من أموال منقولة أو غير منقولة. ضحيته الناس. هو ليس نظاما اقتصاديا حراً. نموذج الاقتصاد الحر، إذا وُجِد، تكون فيه مؤسسات أعمال تجارية وصناعية وزراعية وخدماتية كبيرة وصغيرة تتنافس؛ بعضها ينجح ويربح، وبعضها يفلس ويخرج من السوق. لم نر أحدا من المصارف، الصناديق المودعة فيها أموال الناس، يفلس أو يخرج من السوق. الطبقة الحاكمة بالسياسة والاقتصاد لا تتنافس فيما بينها. لا أحد منهم يفلس. كلهم يراكمون الثروات. والصراع الراهن يعني أن من يخسر في السياسة يفقد القدرة على مزيد من التملّك، بالأحرى الاستيلاء على ما تبقى من أموال لدى اللبنانيين. لا منافسة في السياسة بل مقاتلة حتى الموت في الاقتصاد وحيازة الثروة. من يسيطر يأخذ كل شيء.
إن حدة الصراع في سبيل إلغاء الخصم هي صراع حياة أو موت حول أملاك الدولة واللبنانيين وأموالهم والمشاعات والمرافق العامة. تترك المرافق العامة، مستشفيات، مطار، جامعات، مدارس، طرقات، الخ…، دون صيانة كي يأتي الشاري ويتملكها بسعر رخيص بعد أن تنقص قيمتها بفعل الإهمال. المسألة ليست فقط نقض الطائف، بل استهداف الملكية الخاصة والعامة لمصادرتها وتغيير مالكيها. على مالكيها القدماء أن يذهبوا الى “جحيم” الفقر. سلطة عطشى للثروة تعبر عن أقصى ما وصلت إليه النيوليبرالية في العالم. عالم لم يعد فيه من القيم إلا واحدة وهي المال وجمع الثروات. يقيّم فيها الانسان ليس على أساس معرفته وأخلاقه وعلاقته السوية بالآخرين بل على أساس معيار واحد، وهو ما يملك.
أوجدت ثورة 2019 هوية جامعة بين اللبنانيين فوق الهوية الطائفية. شعرت الطبقة الحاكمة السياسية والاقتصادية بالخطر. حولت الأمر في لبنان الى صراع طائفي غير مسبوق بفجاجته وصلافته وخلوه من الأخلاق والسياسة. لم تعد السياسة موجودة. الأخلاق معدومة لدى الطبقة الحاكمة. طبقة في صراع مع الزمن ليس من أجل البقاء وحسب، بل لتملك ما بقي في أيدي اللبنانيين.
هو صراع على التملّك في غياب السياسة والأخلاق. الجدد في الطبقة الحاكمة لديهم تعطّش للملكية.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق