لن يكون ما بعد يوم الأربعاء الواقع فيه 24 نوار 2000 مشابهاً أو مجرد امتداد لما كان قبله. لقد أعطى لبنان هذه المنطقة العربية بداية جديدة لتاريخ نضالها المتصل من أجل التحرر والتقدم وتعزيز كرامة إنسانها.
ولأننا في قلب انتصارنا، منتشين بمجد تحقيقه، سيصعب علينا أن نراه بحجمه الطبيعي، وسنعجز عن حصر التداعيات المنطقية المترتبة عليه، ذلك أن الحدث التاريخي يكاد لشدة واقعيته وحرارته يتجاوز كل خيال أو حساب أو تقدير.
إنه انتصار يستمد حجمه من عدونا المهزوم… بقدر ما هي إسرائيل »قوة كونية عظمى« فإن الانتصار عليها، مهما كان رمزياً، لا بد أن تكون له أبعاده داخل هذا الكيان الهجين، ثم على المستوى العربي المفتوح على الانكسار والتسليم لجبروتها، كما على المستوى الدولي حيث لها النفوذ الهائل واليد العليا على الكثير من قرارات »مراكز القرار« في العالم، وعنوانها الأساسي في البيت الأبيض بواشنطن.
إنه بداية انتصار لبسطاء الناس، للشعب، للمواطن الذي يأخذه إيمانه إلى البديهيات البسيطة، بغير حذلقة يضيع معها المعنى وتسقط الفروق بين العدو والصديق وبين السلام والاستسلام وبين الطغيان والعدل وبين الحرية والفوضى.
إنه انتصار لكل لبناني، مَن جاهد بسلاحه أو بيده أو بقلبه أو بلسانه، وهذا أضعف الإيمان. وهو انتصار سينال منه نصيب أولئك الذين كانوا يسفِّهون المقاومة ومنطقها، ويزيِّنون اتفاقات الإذعان، ويروِّجون للاعتماد على »المجتمع الدولي«، ويدعون إلى عدم إغضاب الجبار الأميركي وصديق المصلحة الأوروبي مع التغاضي عن انبهاره بإسرائيل عامة وببطلها الأسطوري إيهود باراك (العمالي!!) على وجه الخصوص.
إنه انتصار حتى للذين مُنعوا من المشاركة فيه، أو هربوا من وهجه، أو خافوا من انعكاساته. إنه لمرجعيون كما لبنت جبيل، ولحاصبيا كما للخيام، ولإبل السقي ودبل ورميش وعين إبل كما لعيناتا ومحيبيب وميس الجبل وحولا وبيت ياحون وبيت ليف. إنه للأميرة بيروت وضاحيتها النوارة كما لجونية وجبيل وريفون وعجلتون وكفرذبيان وحراجل وعشقوت. إنه لطرابلس وزغرتا وبشري وحلبا والقبيات وعندقت وبينو وكوسبا وأميون كما هو لبعلبك والهرمل وزحلة ومشغرة ومجدل عنجر وشمسطار وقب الياس وبر الياس، وهو لعاليه وسوق الغرب وحمانا ورأس المتن كما هو لبكفيا وضهور الشوير وبعبدات وبيت مري. إنه لبعقلين ودير القمر وشحيم وبرجا كما هو لصيدا وصور والنبطية وحبوش وجباع وعربصاليم وجبشيت.
إنه انتصار لكل لبناني في الوطن أو حيث شرّده الاحتلال، في المهاجر العديدة من أفريقيا بشرقها وغربها والقلب إلى أوستراليا، ومن شمال القارة الأميركية كندا والولايات المتحدة إلى أقصى الجنوب منها، مرورا بأميركا الوسطى.
إنه انتصار حتى للذين خافوا منه، إما لتورطهم في الحرام وإما ليأسهم من أنفسهم، وإما لثقتهم بأن إسرائيل تميّز بين »أعدائها« على أساس من الدين أو المذهب، أو أنها تحترم تعهداتها وتحفظ لمن خدمها »جميله«.
وهو انتصار لكل عربي فيه نصيب: مَن قدم السلاح والتدريب، ومَن قدم مساعدة أو قرضاً، ومَن كان معنا بعاطفته لأنه لا يملك غيرها.
بل هو انتصار فيه نصيب لكل شعب مستضعف يذله الاحتلال الأجنبي أو يقمعه الطغيان الداخلي عن أداء واجبه الوطني خوفاً على السلام والأمن والاستقرار الدولي!
ثم إنه انتصار للعلم مع الإيمان، للربط المطلق بين الوطن/ الأرض/ الناس وبين المقدسات الدينية والجهاد من أجلها مجتمعة، والنظر إلى تحريرها على أنه فرض كفاية.
إنه انتصار للتخطيط الدقيق، للكفاءة القتالية التي تكشف الفهم العميق لطبيعة العدو، وتهيّئ بالتالي شروط المواجهة وإلحاق الهزيمة به ميدانياً، ولا تهرب بالخطابة وشقشقة اللسان والبهورات الفارغة من المواجهة الميدانية.
إنه انتصار للعمل التنظيمي الدؤوب. لاحترام عقول الناس. لفهم موازين القوى والتعويض عن التفوق بالسلاح إلى التفوق بالإيمان والإرادة الفولاذية التي تتجاوز حد الاستشهاد.
إنه انتصار للفهم العميق للدين، كمنطلق لتحرير الإنسان وتعزيز كرامته.
انتصار على الطائفية والمذهبية التي تأخذ الإنسان إلى التعصب والجهالة والفتنة وتهدر قيمة الأرض وكرامة الوطن ومعنى الوحدة.
إنه انتصار يعيد الاعتبار إلى العقائدية وإلى الحزبية إذا ما ارتبطت بهدف نبيل وارتقت إلى طموح الإنسان وحقه في غد أفضل، فالمقاومة ليست تسلطاً على مَن يسلمها روحه وبيته ورزقه ومستقبله، وليست شطارة أو حذلقة أمام العدو بحجة الابتعاد عن شبهة الإرهاب.
إنه انتصار على المظهرية والشكل والانتهازية وخفة الالتحاق بالقطار في اللحظات الأخيرة، وعلى الارتجال والفوضى والتسيّب.
وللمناسبة فلصوص أيام التحرير لا يقلون خسة ونذالة عن المتعاملين مع العدو.
والذين يهدرون شرف السلاح المقاوم لا يستحقون أن يعتبروا في عداد المنتصرين.
ولا بد من وقفة شجاعة تحمي للسلاح شرفه وتفضح »حرامية البيوت«، والذين لم تعرفهم الأرض ولم يعرفوها طوال فترة احتلالها، ثم ذهبوا في مواكب الفرح لكي يشوِّهوا صورة النصر ويسيئوا إلى كرامة المقاومة ونصاعة تجربتها الفذة.
* * *
لم يضع الانتصار حداً لإسرائيل ببنادق مجاهدي المقاومة الميامين فقط، وإنما هو دل على الطريق إلى فلسطين أيضاً، وإلى إسقاط المعادلة القائمة والقائلة بأن إسرائيل أقوى من العرب مجتمعين، وبالتالي فليس أمامهم إلا الخضوع لهيمنتها، فإن قست عليهم لجأوا إلى واشنطن لتتمنى عليها تخفيف الشروط عن هؤلاء المستسلمين لها مقابل أن تأخذ منهم أكثر!
إنه انتصار يتجاوز بإشعاعه لبنان ودنيا العرب ليصل إلى أقصى بقاع الأرض.
وهو انتصار للبنان ومعه سوريا التي رعت مقاومته وحمتها وساعدت في إعادة بناء دولته، وإيران التي قدمت كل ما استطاعت من أنواع المساعدات.
لقد رأى الإسرائيليون في يوم 24 نوار 2000 يوم المهانة: ففي ساعات شطبت روح التحدي الميليشيا التي علفتها لمدة تزيد على عشرين سنة، وسقط »الحزام الأمني« فصار على إسرائيل أن تحمي أمنها بدماء جنودها مباشرة، واهتز يقينها بقدراتها غير المحدودة، ولم يستطع جيشها أن يتحكّم بالأحداث بل إن الأحداث هي التي قادته خارج لبنان تطارده بنادق المقاومة التي صارت هي »الحدود الدولية المعترف بها«.
* * *
إنه انتصار لجميع الشهداء، والعيد عيدهم قبلنا.
إنه انتصار لكل »المستضعفين« الذين أسقطوا أسطورة »الجيش الذي لا يُقهر«.
لقد عاد الوطن لأهله، وعاد الأبناء إلى حضن أمهم الأرض، الوطن، والوطن يتسع لجميع أبنائه.
تحية لكل المجاهدين الأبطال، مَن قضى منهم ومَن ينتظر وما بدلوا تبديلا.
ولننصرف الآن إلى الجهاد الأفضل: حماية النصر وتدعيمه، بتعزيز الوحدة بين الدولة والشعب، وببذل الجهد من أجل إعادة بناء ما هدمه الاحتلال، وهو واجب يتجاوز الحكم إلى الناس جميعا، فكلنا مسؤول وكلنا شركاء في النصر وشركاء في حمايته من الذين يحاولون تشويهه أو تقزيمه ليصير بحجومهم الضئيلة!
وليت أن يوم العيد كان يوم عمل باسم التحرير ومن أجل استكماله بإعادة البناء.
لنثبت أننا في مستوى نصرنا العظيم.
لنثبت أننا نستحق هذا النصر ونقدر على حمايته واستكماله.