لا نكون خير أمة اخرجت للناس إلا بأن نخرج الى العالم، ونكون جزءاً منه، ونتبنى ثقافته، ونكتب علمه، ونستفيد من تقنياته. نكون خيراً من الآخر عندما نكون وإياه في خلية واحدة. ما دمنا منغلقين على أنفسنا تكون المقارنة بيننا وبين الآخرين صعبة بل مستحيلة. ونكون أتباعاً ومستتبعين. نكون كائنات أخرى مدانة بالضعف والتقهقر.
خرجنا من العالم عندما قبل سواد الناس مقولة “الإسلام هو الحل”. لم يقبلوها في البداية، أي منذ 1928. لكن التلاعب بالدين الذي حصل على يد السادات، ومجيء الخميني وجهيمان العتيبي، واحتلال السوفيات لأفغانستان، وانتشار أئمة المساجد في تركيا (من 50 ألفاً الى مليون ومئة ألف) بعد انقلاب 1980 واتفاقية كامب دايفيد، وكل ذلك حصل بين أواخر 1978 و1980، انتشر التشدد الديني. فقدنا ملكة التهذيب. صار العالم ينبع من أنفسنا ومن مواقفنا المسبقة. انحدر العقل. وتراجعت القدرة على التفكير. لم يبق إلا تطهير النفس مما نعتبره زائداً على العقيدة الدينية. الإيمان بالله شيء والعقيدة شيء آخر. الإيمان علاقة بين الفرد والله. العقيدة طقوس، وهي علاقات بين الناس. صار الإيمان مرهوناً بالطقوس ولم يعد نابعاً من الضمير. وعند ذلك يصير الإيمان خاضعاً لضرورات الاحتيال.
ملكة التهذيب تعني أن تقول وأن تسمع، وان تحسن الإصغاء، وان تكون مستعداً حين الإصغاء وبعده لتعديل رأيك وتطويره. هي احترام الرأي الآخر وأخذه بالاعتبار. ملكة التهذيب تعني أن تتواضع الذات أمام الموضوع. الذات هي ما بداخلك. الموضوع كل شيء آخر خارج الذات. أنت لا تتلقى المعرفة من الذات وحدها، ولا من مجرد التفكير وحده. التفكير بالعقل هو عندما ترى الأشياء بالتجربة، وحين تكون متواضعاً أمام اكتشاف الخطأ في أفكارك السابقة. أن تكون عندك أفكار تعتدّ بها، وأن تكون أكثر اعتداداً حين يبدو الخطأ فتنتقل الى الصواب، وتتخلى عن الأفكار التي كنت تعتدّ بها حين تكتشف خطأها. يفترض ذلك اتّباع المنهج العلمي الذي عبّر عنه الإمام الشافعي حين اعتبر ان: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي الخصم خطأ يحتمل الصواب.
لا يجب أن نخشى العالم، أو أن نخاف من ثقافته، أو أن نضع عقبات في وجه ما يسمى الغزو الثقافي. نعتزّ بثقافتنا، لكن ثقافتنا جزء من الثقافة العالمية. العالم معولم منذ فجر التاريخ. العالمية ليست العولمة التجارية التي تتحدث عنها الليبرالية الجديدة. العالمية هي الوثوق بأن البشرية سمفونية واحدة بأنغام متعددة، من البداية الى نهاية الكون.
لم يخجل أسلافنا العرب في العصور الأموية والعباسية من الأخذ بثقافات العالم المتاحة. وحّدت الثقافة العربية تيارات اغريقية، وهندية، وصينية، وإيرانية، وتركية، الخ… كانت الترجمة نوعاً من الأخذ بالثقافة العالمية. وجدت الثقافة العربية روافد من مختلف أصقاع العالم. عندما طلب الخليفة من مالك بن أنس توزيع كتابه “الموطأ في الحديث” ليتبعه الناس في أنحاء الامبراطورية، رفض الإمام مالك هذا الأمر معتبراً ان العالم مختلف بين صقع وآخر، ولكل صقع تجربته.
قبول التنوّع لا يهدّد ثقافتنا بل يؤكدها. عندما رأى اليابانيون في أوائل النصف الثاني من القرن التاسع عشر أن الكوموندور باري على رأس سفن أميركية ثلاث هزم اليابان، عندما رأوا ذلك أحدثوا تغييرات سياسية في الداخل. أبقوا على الامبراطور وغيّروا النظام. وأرسلوا بعثات الى الخارج للتعلم من منجزات الشعوب الأخرى. سعوا وراء الغرب لنسج ابداعاته في أوروبا وأميركا. احدى بعثاتهم زارت مصر في سبعينات القرن التاسع عشر. لم يكونوا خائفين من ثقافة العالم. تطوروا خلال 25 عام، وهزموا روسيا عام 1905. وبعد الحرب العالمية الثانية أقرّ الامبراطور بالهزيمة ركوعاً، وبدأ اليابانيون مسيرة جديدة. كانوا في البداية ينسخون عن الغير. بعد أربعين عاماً، رافق الرئيس الأميركي، بوش الأب، رؤساء شركات السيارات الكبرى للتعلم من اليابانيين.
ليس معنى الانخراط في العالم الأخذ بثقافة أخرى. نحن جزء من العالم، ومن تاريخه، ومن الثقافة العالمية. اسهاماتنا عبر التاريخ، قبل الإسلام وبعده، في الثقافة العالمية أكثر من أن تحصى. وذلك في الأدب، والشعر، والفلسفة، والعلوم، والتقنيات. ما يسمى عصور الانحطاط لم يكن كذلك. انجازات كبرى في عصور التراجع السياسي والعسكري. ابن خلدون عاش في القرن الخامس عشر؛ ابن رشد في القرن الثالث عشر. لم تكن أوروبا خجولة من نفسها عندما استخدمت وسائل جديدة لترجمة الكتب العربية الى لغتها. ولم تخف تأثير كبار مفكريها، وصولاً الى عصر النهضة، بالتراث العربي، أو بالتراث الاسلامي عامة.
لا خوف على ثقافتنا من الغزو الثقافي ولا من الانخراط في العالم. الخوف هو من الانعزال عن العالم. عندما اتخذت كل من الصين واليابان قراراً بالعزلة عن العالم في سبعينات القرن الثامن عشر، دبّ الضعف والوهن في كل منهما. صار احتلالهما سهلاً. يشبه هذين القرارين شعار الإخوان المسلمين “الإسلام هو الحل”. معناه أن ننغلق على أنفسنا. من هذا الشعار انبثقت السلفية الدينية التي معناها أن نعيش كما عاش أسلافنا في الماضي. المعنى أن كل ما في الحياة من تطوّر هو أمر متضمن في أفكار وطريقة عيش لأسلاف لا نريد أن نعرف عنهم إلا ما يتعلق بمجد الفتوحات. السلفية استحالة منطقية وعملية. والإسلام هو الحل شعار يناقض العقل والتجربة. إذا كان الحل في الدين فلماذا اقتتل المسلمون فيما بينهم عبر العصور؟
الدين ليس معطى معلباً. نادراً ما نجد في تاريخنا كتاباً دينياً أو غير ديني يحمل الإسلام في عنوانه. لم يتحدث أحد باسم الإسلام. ولم يعتبر أحد أن الإسلام موجود بين يديه أو في عقله. عندما كتب الأشعري مقالات الإسلاميين، كان ذلك ضدهم. ضد من اعتبر الدين محتوى في عقله أو في دماغه. أكثر ما نرى هذه الأيام كتباً يحمل كل منها عنوان الإسلام، ويعتبر مؤلفو هذه الكتب أن الدين هو ما لديهم من أفكار، وأنهم ينطقون باسم الدين. حتى صار لنا علم نفس إسلامي، وعلم اجتماع إسلامي، واقتصاد إسلامي، وما يُخشى منه أن يصبح لدينا فيزياء إسلامية، وكيمياء إسلامية، الخ…
نغزو العالم عندما يغزونا العالم ثقافياً
في غياب الغزو الثقافي تنتظم الأمور “بيننا” وبين “هم”. لا ندري كيف نضع “نحن”. سجناء سفلة من الطغاة الذين يصيرون أتباعاً لـ”هم”. ليس الغزو الثقافي خطراً علينا. هو إنقاذ لنا من الاستبداد والطغيان والجهل. هو إنقاذ لنا من أنفسنا. نكاد ننكسر وندمر أنفسنا تحت عبء تاريخنا وأمجادنا وانجازاتنا. يحق لنا أن نفخر بتاريخنا. لكن ماضينا يكاد يسحق حاضرنا. صار التاريخ عبءا علينا. ننغلق على أنفسنا عندما نتحدث عن الإسلام وحده، ولا يمتد عقلنا الى المسيحية، واليهودية، والبوذية، والهندوسية، والشنتوية، والكفر، والإلحاد. قليلة هي كتب نقد الأديان عندنا. قليلة هي كتب الكفر والهذيان الديني. قليلة هي نصوص التساؤل، والشك، والحوار مع الله. لم نكن كذلك. صرنا كذلك. كل الفكر الراهن يقينيات… كتب الفقه الكلاسيكية، خاصة أصول الفقه، بنت منظوماتها الفكرية لا على اليقين بل على الشك، وعلى غلبة الظن، وعلى الترجيح، وعلى عدم الوثوق. لا إيمان حقيقياً مع الوثوق. إذا لم نبتل بالشك لا نصل الى نعيم اليقين؛ وكل يقين نصل اليه يتعيّن علينا اتباعه بشك في سبيل الوصول الى يقين أعلى. الإيمان هو اليقين الذي نسعى إليه ولا نصل. الإيمان عذاب دائم، قلق دائم، وحيرة دائمة.
ثقافتنا الراهنة، وعينا الراهن، عبارة عن ثقب أسود، إذا استخدمنا نظرية ستيفان داوكنز. تطغى الجاذبية على قوى النفور والخروج على المألوف. تتحطم الثقافة تحت ثقل نفسها بفضل جاذبيتها.
لا خوف من الثقافات الأخرى. الخوف من الخوف نفسه كما قال فرانكلين روزفلت في أوج الأزمة. الخوف من أنفسنا. عندما تتقوقع الذات حول ذاتها تنكسر وتدمّر نفسها. العلاقة بالخارج، الاتصال واكتساب ثقافة الغير هو إنقاذ لثقافتنا. المسألة لا تتعلّق بالسطح السياسي، بل بالقاع الثقافي. القاع الذي تنخره الديدان ويصادره الجهلة أصحاب اللحى.
الانخراط في العالم هو خروج على ثقافتنا كي نراها من خارجها. لا نستطيع نقد وتقييم ثقافة إلا من خارجها. ولو رمينا كل ثقافاتنا في كيس القمامة، وما فطرنا عليه، وما شكلنا بتأثيراته، سيبقى فعله فينا. لا خوف على ثقافتنا من الغير. الخوف من أنفسنا هو الأجدر. نحن أولى بهذه الثقافة وأن نغوص الى أعماقها، ونقلبها وننقلب عليها. الغير لا يهمه الأمر. يأتي الى المأتم، يشارك في عملية الدفن. وربما يعد الإحراق. ويضعنا في متحف التاريخ، ويدرس ماضينا وحاضرنا ويضع الأحكام. نتحوّل الى مزبلة التاريخ إن لم نتجاوز أنفسنا، وننخرط في العالم، ونبني ثقافة أخرى. ولا يمكن بناء ثقافة أخرى إلا من العناصر الموجودة. قليلاً ما يُبنى قصر أو فيلا من حجارة مستوردة. تُبنى بالحجارة الموجودة. لكن البناء يكون مختلفاً. الصخور ذاتها في الأرض وفي البناء. لكنها تختلف هنا عن هناك. نحتاج الى بناء جديد. والبناء لا يمكن أن يكون إلا من صخور الأرض الموجودة لدينا وفي عقارنا.
منذ ظهور النفط فقدنا ملكة التهذيب. نستورد تكنولوجيا الغرب ولا نفقه علمه. العلم الحديث بحث في أسباب الطبيعة. التكنولوجيا استخدام لنظريات العلم من أجل صنع أشياء مفيدة، أو سلع تُباع وتُشترى. ثقافتنا تقنية لأبعد الحدود، وعلمية لأدنى الحدود. ليس عندنا قلق البحث النظري والفلسفي. عندنا يقينيات التكنولوجيا وما يتبعها من تسليع للإنسان. التسليع يقود الى التشليع. مجتمعنا مشلع تحت عبء الثقافة الموروثة والتكنولوجيا المستوردة. عقلنا مستريح لا يسأل. لا يشك. لا يرفض قبل أن يقبل. الوعي مدمّر لأنه مستند الى الاستهلاك لا الإنتاج. لا نتحوّل الى مجتمع منتج إلا بالعلم، والسؤال، والشك، والتنظير، والتفلسف. يقينيات الدين مدعومة بالثروة المالية، تدعم إفراط الذات في ثقتها بنفسها. ذات نعتقد أنها تملك الحقيقة لأن الدين الراهن (وهو غير الدين التاريخي) يقول ذلك. دين النفط هو دين الاستهلاك، وراحة البال، واليقين بذات إلهية أعطتنا ما نعتبر اننا نستحقه؛ وحقيقة الأمر أننا لا نستحقه لأننا لم ننتجه؛ ما أُعطينا من نفط لم يُستخدم لتدعيم الإنتاج وما نستحق، بل استخدم لتدعيم الاستهلاك، وثقة الحاكم بالذات. انتشر القمع والتعذيب بناء على يقين ديني. دين الملك الوارث، ودين المستبد الذي يدّعي العلمانية، ويورّث سلطة، فكأن وجوده أبدي مقدس.
لا نحتاج الى دين جديد. ولا نحتاج الى تجديد ديني. نحتاج الى الوقوف خارج الدين كي نرى المجتمع. الدين الراهن يعمينا عن المجتمع. يقدس نفسه ويهمل المجتمع. يتحوّل المؤمن الى إنسان عقائدي محتال على الله. الدين الراهن كفر أسود لأنه مفرط في اليقينية؛ يقين مفرط. عقل مستريح. نحتاج الى الانخراط في العالم كي نخرج من اليقين المطلق.
ننخرط في العالم. نغوص في مجتمعنا. نعرف هذا المجتمع. بالدين والتراث لا نستطيع معرفة مجتمعنا. مناهج العلم الحديثة هي وحدها التي تتيح ذلك. العلم الموروث علم ديني قائم على الاستنباط. الأحكام فيه متضمنة في المقدمات. العلم الموروث يعيد تكريس نفسه من خلال الاستنباط من دون تقدم. الاستقراء شيء آخر يفرض علينا الملاحظة من الخارج. ولا نعطي الأحكام ونستخرج القواعد بناء على ذلك لكي نعود الى الأساس، ونرتفع الى مستوى أعلى من العلم باجتراح “بارادايم” علمي جديد. العلم الموروث يبقينا في بارادايم يجتر نفسه.
الانخراط في العالم يعني أن نستوعب العالم في ذاتنا. أن لا يبقى لنا آخر. الآخر هو ذاتنا؛ بالأحرى صارت ذات الآخر داخلة فيه. العالم كله غزو ثقافي. الفرق هو بين تابع ومتبوع. نحن من التابعين. دخلتنا الثقافة الغربية بشكل استهلاكي بذيء. مهمتنا الإنتاج والاستدانة من تجارب الغرب بما يفيد مجتمعنا. الأدوات التي نستوردها للاستهلاك حولتنا الى أدوات؛ وكانت الأدوات التكنولوجية وسائل استتباع (استعمار) أخرى. هي ثقافة غريبة ترزح فوقنا شئنا أم أبينا. لا نستطيع العيش خارج العصر. نعيش العصر بالضرورة. نعيشه إما تابعين أو متبوعين. باستيعاب ثقافة الغرب نمتلك وسائل القوة ونخرج من التبعية. كل نظريات التنمية، والاستثمار، والتطوّر الاقتصادي لا تفيد إن لم نخرج من التبعية الثقافية. نخرج منها عندما نصنع ثقافتنا. عندما ننخرط في العالم وتصير ثقافة العالم ثقافتنا، ونصل الى التكافؤ الثقافي مع بقية العالم. التكافؤ الثقافي لا نحرزه إلا بالعلم والإنتاج؛ العلم الحديث من العلم الموروث؛ الإنتاج المؤسسةُ تقنياته، في بعضها على علمنا وإبداعنا العلمي والفني، كما إبداعنا في العلوم المادية والإنسانية.
الفرق بين التطوّر والتأخر عشر وبضع سنوات. الأمر يحتاج الى القرار، ويحتاج الى السلطة والى نخبة فاعلة. بقرارات من هذا النوع نصير أقوياء. ما دمنا نفتقد القوة سنبقى تابعين. عالم لا يرحم. رأسمالية تجرف كل شيء في طريقها. الرأسمالية نظام عالمي قائم على التناوب، والهوة بين الأمم، والتناوب داخل كل أمة. التناوب في الداخل طبقي، مع الخارج امبريالية.
المنافسة ليست دعوة للقتال، بل لأشكال أخرى من النضال في سبيل التحرر. نحن الآن مستتبعون ثقافياً (وحضارياً). الأمر ليس خارجاً عن إرادتنا. الأمر يكمن في القرار. كيف نأخذ قراراً (قرارات) من هذا النوع.
نعود الى القول بضرورة وجود نخبة متحررة فكرية. نزق النخبة، متى وُجدت، يتجاوز ما نحن فيه. تصير المسألة سياسية. التطوّر الثقافي أمر سياسي. لا معنى للسياسة إن لم تكن إدارة المجتمع بإتجاه الانخراط في العالم والأخذ بثقافته للخروج مما نحن فيه. الانخراط بالعالم بكل جرأة، من دون خوف على ثقافتنا الموروثة، التي نحن أولى بدفنها، وجعلها من موجودات المتاحف. ليس لدينا ترف الجمع بين الثقافتين العالمية والمحلية. أمامنا خيار واحد هو العالم وثقافته. هذه الثقافة التي نحن جزء منها، ساهمنا فيها عبر التاريخ، وتخلينا عنها لسبب أو لآخر.
تنفجر بلادنا حروباً أهلية لأن ثقافتنا انغلقت على نفسها. وضعنا عوائق في وجه التجاوز. انفجر مجتمعنا لأن الوعاء الحاوي لم يعد قادراً على استيعاب الغليان في داخله. وفي المرة القادمة سيكون الكلام في المجتمع المفتوح.
تنشر بالتنسيق مع موقع الفضل شلق