عن صموئيل وفاطمة… وصولاً إلى المبدع آدم حنين
التقيت آدم حنين أول مرة في «دارة أشجان المحبين» التي كانت ترعاها السيدة بدر حمادة ويستجلب زبائنَها زوجُها رسامُ الكاريكاتور بهجت عثمان أو «بهاجيجو» الذي لا تموت ابتساماته المنثورة على مساحة ما بين المحيط والخليج، انطلاقاً من مجلة «صباح الخير» ومعها «روز اليوسف» بقيادة احمد بهاء الدين وإشراف إحسان عبد القدوس، وصولاً إلى مجلة «المصور» في دار الهلال، فإلى مجلات الأطفال في الكويت ثم في أبو ظبي مروراً ببعض المجلات في بيروت.
كان آدم حنين يعيش قصة حب مضنية مع من ستغدو شريكة عمره ورافعة نجاحه «فاطمة»، وهي شقيقة الكاتب المبدع علاء الديب… والسبب اختلاف الدين، فآدم ـ واسمه الأصلي صموئيل هنري ـ قبطي أصيل. وقد عرفت فصادقت شقيقه الأصغر الذي استمد اسمه من رقته المهندس «نسيم هنري»، وكذلك شقيقه الأكبر «عريان هنري»، وكان تاجراً في خان الخليلي.
في «دارة أشجان المحبين» كانت بدر حمادة تستقبل صموئيل لتمسح دموعه، وتسعى لترتيب لقاء له مع المرأة التي أحب، بإذن خاص من شقيقها الذي كان يكتب مسيرة تقدمه كروائي. وكان الرسول الأمين «نسيم» هو مهندس المواعيد.
كان آدم حنين يحفر في صخر الغرانيت مسيرة نجاحه إلى القمة كنحات، وسط مواكبة زملائه في كلية الفنون الجميلة… وذات يوم قرر أن يبني بيتا في الحرانية، في سفح أهرامات الجيزة، ملتحقا برمسيس ويصا الذي كان قد أقام مصنعاً لسجاد الأطفال، إذ كان يأتي بمجموعات من الفتية والفتيات فيوفر لهم الصوف والقطن وألوان الصباغ ويترك لهم أن يحيكوا السجاد برؤاهم وأخيلتهم والألوان التي يختارون.
بنى آدم بيته عائداً إلى الطبيعة، وإلى المواد الأولية التي كان يستخدمها الأجداد، مبتعداً عن الأسمنت والحديد، ركز على الطين والقصب والأخشاب.
ولقد ذهبنا إليه في موكب جماعي يوم الخامس من حزيران 1968 لنحيي ذكرى «النكسة»: كنا حوالي الخمسين نفراً، بيننا رسامون وكتّاب وروائيون وصحافيون تجمعهم الصداقة والطموحات والهموم وذل الانكسار.
كان الثنائي الجميل آدم وفاطمة صورة للفرح، وكنا جميعاً مزهوين بانتصار الحب… نعيش بهجتهما وكلنا ثقة بأن مصر ستعود إلى الميدان فتنتصر، خصوصاً وأن كل شبابها من المتخرّجين، ومنهم الباشمهندس نسيم هنري، قد استدعوا إلى خدمة العلم.
ولسوف تمر سنوات، وتتعاظم إنجازات النحات آدم حنين الذي اعترف به العالم الفني كواحد من «الكبار» في عالم النحت.
وصدف أن كنت في باريس، فقرأت عن معرض للنحات العالمي الآن، آدم حنين، فسعيت إليه، وجلت مع القادمين للتعرف إلى الأعمال الباهرة لهذا المبدع المشبع بالتراث الفرعوني والإضافات القبطية والإسلامية، والذي يعرفه العالم، غرباً وشرقاً، أكثر مما يعرفه أهله العرب، في مصر وخارجها.
بقيت أتابع أخبار آدم حنين عن طريق شقيقه نسيم هنري الذي أنشأ ورشة يبدع فيها من الصلصال آنية مميزة، بالاشتراك مع زوجته الفرنسية هنرييت…
ولقد عرفت أن هذا النحات عالمي الشهرة قد ابتنى لنفسه متحفاً في الحرانية، مكان بيته المن طين، يحتوي على تماثيله وأعماله المختلفة، وسط حفاوة أهلية ورسمية، ومباهاة أهل الحرانية، التي باتت الآن مدينة صغيرة بعدما اختارها الكثير من الكتّاب والصحافيين مقراً لسكناهم فابتنوا فيها بيوتا أنيقة ليكونوا إلى جوار آدم حنين، الذي كتب ـ بالحديد ـ صفحة جديدة للإبداع الفني في مصر وسائر أنحاء الوطن العربي.
وبالتأكيد فإن وجوه كثير من رفاق الصبا ومن الشهود على الحب العظيم الذي جمع «صموئيل» و«فاطمة» في دارة أشجان المحبين، وبالذات بدر وبهجت، تكمن في قلب الحديد والغرانيت الذي أنطقه آدم حنين عبر قصة حبه التي شارك في كتابتها كثير من العشاق وأكثر ممن لم يعرفوا العشق لأن القلوب التي من غرانيت قد انتصرت على حبهم، لأنهم لم يكونوا برقة قلب العاشقين مدى العمر في جنتهما في الحرانية.
من الشويفات إلى عواصم الكون مع «المهيوب» كلوفيس مقصود
ها نحن إذاً في «البيت» الذي أعطانا هذا الشاب الجالس معنا بقيافة العجوز، متواضعاً، منطوياً على نفسه، يتظاهر بأنه ضعيف النظر في حين انه يقرأ النيات، وانه ضعيف السمع مع انه يلتقط هسيس أوراق الشجر الذي يظلل الطريق من الشويفات إلى أوكلاهوما، حيث ولد غريباً، وفي المسافة بينهما.
ها نحن في حضرة كلوفيس مقصود، تظللنا أطياف الوالدة ماري التي أكدت له عروبته والخال جورج حنا الذي علّمه المشي يساراً، فيما يطل الوالد فريد مقصود من عليائه ليتحقق من صحة انطباعه الأولي حين نظره خارجاً من رحم أمه: «صبي بشع.. بس مهيوب».
ها نحن في الشويفات غير بعيد عن الوطن ـ الأم، وادي شحرور، باعتباره وريث دوك واي شحرور – رئيس شركة المواصلات ومدير شركة توزيع المياه في ولاية وادي شحرور، كما قدم بعض أعمامه لزوار أميركيين، باعتبار أنه كان يملك أربعة حمير يحمل عليها كبار السن إلى الكنيسة في الأعياد والمناسبات، وفي سائر أيام الأسبوع يبيع جرار المياه للعطشى.
في أي حال، يمكننا أن نعتبر كلوفيس مقصود أخطر رجل في العالم لعظيم ما تختزنه ذاكرته ولا تنساه من معلومات عن الدول في القارات الخمس وعن الزعماء السياسيين والقادة الكبار من جمال عبد الناصر إلى جوزيب بروز تيتو ثم إلى جواهر لال نهرو وسائر أفراد هذه العائلة المجيدة بتاريخها المأساوي.. هذا فضلاً عن رجال الدولة ونساء الدولة، والمؤرخين والبحاثة، والأحزاب السياسية وقادتها في الشرق والغرب، عن الجامعات وكبار الأساتذة، ثم عن المنظمات الإقليمية والدولية بدءا بالجامعة العربية بمقرها الدائم في القاهرة ومنفاها في تونس وصولاً إلى سفارتها في الأمم المتحدة في نيويورك، وانتهاء بالمنظمة الدولية وكل ما انبثق عنها من وكالات تحمل أسماء معقدة لمهمات لم تُنجز.
كذلك يمكن أن نعتبر كلوفيس مقصود واحداً من منظري الحركة القومية العربية، لا سيما وقد أضاف إلى الفكرة حاجة العروبة المولدة للمواطنة، منبهاً إلى أنها تحتاج أيضا المناعة التي تحمي استقلالها من النفوذ الخارجي.
هذا عن كلوفيس مقصود، أما عن كتابه «من زوايا الذاكرة» فيمكن القول إنه يتجاوز الاستعراض الذي لا شبيه له باتساعه وشموله دولاً وأحداثاً محورية وشخصيات قيادية إلى مطالعة ضد اليأس، قد تبدو دون كيشوتية، لكنها تصدر عن إيمان ثابت بهذه الأمة المجيدة وقدراتها غير المحدودة.
ولقد دخل كلوفيس مقصود رحاب العروبة من بابها الأوسع، العروة الوثقى والمعلم قسطنطين زريق، ثم أضاف إلى رصيده حماسة عارف النكدي وعادل ارسلان، فعمر أبو ريشة ومحمد النقاش وعلي ناصر الدين وقسطنطين يني وفهيم خوري… ولعل تحدي الغربة قد زاده إيماناً بهويته العربية فصارها وصارته.
أما الاشتراكية فقد دخلها من باب كمال جنبلاط الذي صحبه خاله إلى منزله مرة، فالتقى المؤسسين للحزب التقدمي الاشتراكي فؤاد رزق وجميل صوايا والشيخ عبدالله العلايلي وفريد جبران.
وبلغ من حماسته أنه ظل يرسل المقالات إلى جريدة الحزب بالأنباء، من واشنطن، مؤكداً القوة الدولية الثالثة التي ستتبلور لاحقاً في مجموعة دول عدم الانحياز.
وهو يذكر أنه حين تخرّج من جامعة جورج تاون وعاد إلى لبنان فوجئ بكمال جنبلاط يستقبله في ميناء بيروت مرحبا برسول القوة الدولية الثالثة… وكان على كلوفيس أن ينظم فروع الحزب وأن يثبّت إيمان أعضائه بعقيدته.
ولقد ذهب إلى يوغسلافيا في العام 1952 حيث التقى الماريشال تيتو لساعات طوال، وجادل مليوفان جيلاس لأيام.
وكان قد تعرف، قبل ذلك، على ميشال عفلق وصلاح البيطار وشبلي العيسمي وعبد الكريم زهور، الذين هربوا من ديكتاتورية الشيشكلي في دمشق.
ولكي يؤكد إيمانه بالاشتراكية جعلها موضوع رسالته للدكتوراه:
الاشتراكية العربية حيث كلفس الاشتراكية العلمية والقومية العربية فاستولد صيغة مكلفسة تحمل بصمته.
على أنه لم يكن يطيق الخلل الحزبي.. وهكذا فقد فاجأ كمال جنبلاط في اجتماع لاتحاد المتخرّجين العرب وتجمع الأحزاب المؤيدة لجمال عبد الناصر، فذكر أن الكثير من قواعد الحزب التقدمي غير راضية عن إعلان الحياد بين المعسكرين فانسحب كمال جنبلاط وأنور الخطيب ونسيم مجدلاني.
وقبل أن يصدر القرار بفصله من الحزب قرر الاستقالة مع مجموعة من الرفاق بينهم جبران مجدلاني وانطون معلوف وموريس صقر.
على أن السياسة لم تشغل كلوفيس عن الاهتمام بالتاريخ والقضايا الفكرية، وهكذا فقد استضاف المؤرخ المعروف ارنولد توينبي وجمعه إلى جواد بولس، بل طلب من توينبي كتابة مقدمة لكتابه تاريخ لبنان.
في سجل كلوفيس مقصود محطة فاصلة في العام 1956: تلقى دعوة لزيارة القاهرة من كمال رفعت الذي كان يشغل رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم. وذهب إلى «المحروسة» لأول مرة، فنزل في فندق شبرد.. وجاء إلى زيارته أحمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس ولطفي الخولي.
وذات مساء جاء كمال رفعت ليصحبه إلى لقاء جمال عبد الناصر قائلاً: سيكون لديك عشر دقائق فقط.
في منشية البكري استطال اللقاء فشمل عشاءً بسيطاً ونقاشاً ممتعاً.
قال عبد الناصر: عامل لي شيخ عروبة واسمك كلوفيس ما تغير اسمك يا خوي.
سأله مقصود: وماذا تقترح لي اسماً
قال عبد الناصر: قحطان.
ورد كلوفيس: أليس ثمة حل وسط، بين بين؟
يمكن المرور بمحطات عديدة على طريق نضال هذا الفتى الأغر.. فلقد زار الهند، لأول مرة 1958، ثم لم يغادرها حتى آخر متحدر من عائلة نهرو. وستكون هذه الزيارة فاتحة لإقامة طويلة إذ في أيلول 1960 استدعاه الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الخالق حسونة إلى لقاء في شتورة ليسأله إن كان يقبل أن يمثل الجامعة في الهند. وفي 10/2/1961 وصل كلوفيس إلى نيودلهي، فأمضى ستة أسابيع في منزل السفير المصري قبل أن يجد سكناً. وفي 22 آذار 1962 ذهب يدعو نهرو إلى الاحتفال بيوم الجامعة العربية وفاجأه وحشد الحضور، بالقدوم فعلاً.
وكان كلوفيس مقصود الذي شهد ولادة معسكر عدم الانحياز والحياد الإيجابي من موقع المبشر أحد المنظرين الكبار لهذه السياسة التي تشرك سائر العالم خارج القطبين في قرار الحرب والسلام.. قرار حياتهم.
بعدئذ ستتفجر الثورة الفلسطينية، وسيلتقي مقصود الزعيم الراحل ياسر عرفات في العام 1967 لصداقة ستتوطد في العام 1969 وتدوم حتى آخر أيام أبو عمار.
يبقى أن نستذكر تلك المجاهدة التي تحملت كلوفيس مقصود حتى يومها الأخير هالة مالك سلام، والتي كانت بألف رجل ممن تعدّون، وكلنا نذكرها حين نصبت خيمتها وأعلنت إضراباً مفتوحاً عن الطعام، مع مجموعة من السيدات العربيات في حديقة لافاييت مقابل البيت الأبيض، تضامناً مع انتفاضة شعب فلسطين.
وفي تشرين الثاني 2001 أقرت جامعة جورج تاون اقتراحاً بإنشاء كرسي دراسي باسم هالة وكلوفيس مقصود في مركز الدراسات العربية المعاصرة.
ختاماً لا بد من كلمة شكر لهيئات المجتمع المدني في مدينة الشويفات ولرابطة سيدات الشويفات على وجه الخصوص، على تنظيم هذا اللقاء الحميم حول كبير من هذا الوطن الصغير دوّخ العالم بنشاطه، وأساساً بخطبه، ولسوف أغادر الآن وقبل أن يباشر كلوفيس مقصود خطابه الذي باشره في العام 1941 ثم لمّا يفرغ منه.
إنها واحدة من المرات القليلة التي نلتقي على تكريم من يستحق التكريم فعلاً.. مع أنه صبي بشع بس مهيوب.
(كلمة أُلقيت في تكريم كلوفيس مقصود دعت اليه رابطة سيدات الشويفات)
تهويمات/قارئ الأحلام
هي تحب الاقتحام، تأتي بلا موعد، تهز رأسها بالتحية وتجلس غير مهتمة بأن تعرف من سبقها ولأي غرض جاء… فإذا ما انصرف الضيوف ظلت حيث هي مدركة أنه سيأتي إليها متعجلاً: لم أكن أتوقعك. لم تتصلي قبل قدومك؟
ـ لكنك قلت إني أستطيع أن أجيء في أي وقت.. وهذا الوقت يناسبني.
ـ حتى لو لم يكن يناسبني؟
لم ترد، فأضاف: إنني أريد أن أوفر عليك الحرج.
ـ ولكنني لا أحس بالحرج… ألم تقل لي إنني أهم لديك من نصف سكان الأرض.
ابتسم وهو يقول: فماذا عن نصفهم الآخر؟
نأمت: فليشربوا البحر. أنا أهم من جميعهم. قم بنا، فأنا جائعة.
ـ ولكن لديّ عملاً لا بد من إنجازه.
ـ سأنتظر. سأنطوي على نفسي، هنا، كقطة مبللة، ريثما تنهي ما بين يديك. فإن نمت فلا تزعج أحلامي.
وجلس يقرأ أحلامها الأكثر متعة من إنجاز ما بين يديه، فنادراً ما تُتاح له فرصة أن يرى نفسه في أحلام غيره بعينين مفتوحتين على الدهشة.
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ حبيبي يضيق عليّ مساحة التنفس. إنني أراه في الناس جميعاً: هذا يشبهه في حركته، وهذا في انبساط جبهته، هذا في عينيه، وهذا في شفتيه حين يتحدث، وهذا في يده المبسوطة للترحيب…
فإذا ما أغمضت عيني احتلت صورته تلك المساحة الفسيحة الممتدة ما بين البؤبؤ والجفن، فلم أعد أرى إلاّه…