أسقطت إسرائيل بذاتها ذريعة الجنديين الأسيرين التي استخدمتها لتبرير حرب التدمير الشامل لمعالم العمران وأسباب الحياة في لبنان، حين أعلنت بكل وسائل الإيضاح أنها تريد استيلاد دولة تابعة، حدّدت لها مواصفاتها السياسية ومهماتها الأمنية وموقعها في الفلك الإسرائيلي.
لم تعد المقاومة ممثلة بـ”حزب الله” هي وحدها هدف الحرب الوحشية التي هجّرت حتى الساعة حوالى نصف مليون مواطن من بيوتهم وقراهم ومدنهم بعد تدمير أسباب التواصل والانتقال، وموارد العيش، بل إن إسرائيل قد وجّهت صواريخها وقذائف القتل إلى الجيش في بعض ثكناته ومواقعه البعيدة جداً عن الحدود، فأوقعت بين صفوفه عشرات الشهداء والجرحى خصوصاً أن غاراتها دهمتهم بعد منتصف الليل وكانوا ـ بطبيعة الحال ـ نياماً.
والدلالة السياسية المباشرة لهذه الإغارات أن إسرائيل لا تريد هذا الجيش، في المستقبل، لأنها لا ترى فيه الضمانة التي تطلبها، خصوصاً وقد أكد وطنيته وتعلقه بأرضه وأنشأ علاقة وثيقة مع المقاومة، ولعب دوراً في حماية ظهرها وهي تؤدي دورها البطولي في تحرير ما كان محتلاً من أرض الوطن وما كان مرتهناً من إرادة شعبه ودولته.
وبديهي أن تستفيد إسرائيل من جو الدعم الاستثنائي وغير المسبوق الذي اتخذته الدول العظمى والكبرى والبين بين، سواء خلال اجتماع الثمانية في عاصمة روسيا القيصرية، أو عبر امتناع مجلس الأمن الدولي عن التحرك أقله لوقف إطلاق النار، وهي النار التي كانت تلتهم لبنان بجهاته الأربع وتطارد كل من وما يتحرك، على الساحل أو في الجبل، في البقاع أو في الشمال وصولاً إلى ضواحي بيروت ومداخلها ومرافقها الأساسية: المطار والمرفأ وشبكات الهاتف الخلوي والأنترنت والكهرباء.
على أن أخطر دعم تلقته إسرائيل وأغراها بأن تواصل عمليتها العسكرية لتغيير لبنان سياسياً هي تلك المواقف العربية التي تجاوزت التخلي والامتناع عن نصرة “الشقيق الأصغر” و”نوارة العرب” إلى التحريض عليه بتحميل المسؤولية ـ علناً وبصراحة موجعة ـ للمقاومة التي وصفتها بأنها “مجموعات مغامرة”، وبأنها ارتكبت جرم تعريض الأمن العربي(؟!) للخطر، وكادت تجعلها خارجة على إرادة الأمة، وبالتالي فهي تستحق ما تلقاه من عقاب، ولو أنه يجيء على يد “إسرائيل”، التي كانت عدواً فصيّرتها الأيام حليفاً.. وسبحان مبدّل الأحوال!
إن مثل هذه المواقف العربية التي تدين المقاومة وتحمّلها وزر تهديم لبنان وتعريض سلامة دول عربية أخرى للخطر، قد تجاوزت في حدتها وشمولها مجمل الاتهامات التي وجهتها إليها إسرائيل.
وإدانة المقاومة في هذه اللحظة تمتد بآثارها المدمرة إلى المستقبل. فهي فضلاً عن أنها “تبرّر” الحرب الإسرائيلية على لبنان، دولة وشعباً بكل جرائم القتل والتهجير والتدمير والتخريب، فإنها تضخ أسباباً للفرقة ومن ثم للفتنة في هذا الوطن الجريح.
إن هذه المواقف الرسمية العربية تتجاوز تبرئة إسرائيل من جريمة تدمير لبنان، وهي تهمة لا تحتاج دليلاً، ثم إن الإسرائيليين لا ينكرونها، لكي تحرّض اللبنانيين، ضد بعضهم البعض، فضلاً عن نصح العرب الآخرين بالابتعاد عنهم والتخلي عن نجدتهم حتى لا يصابوا بمرضهم المعدي.
إن هذه المواقف أقسى على اللبنانيين وأمرّ في تأثيرها عليهم من الحرب الإسرائيلية. إنها تتجاوز التخلي إلى الإدانة، وبالتالي فإنها تقرّ بأن التأديب الإسرائيلي “حق”… بل إنها تكاد توحي بأن الإسرائيليين يتبرّعون بعملية التأديب القاتلة هذه لكي يطمئنوا “العرب” المعتصمين بالعقل وحكمة الصلح بالاستسلام، إلى أن لهم المستقبل، في ظل “السلام الإسرائيلي” المعزز “بالسلام الأميركي” الآتي من العراق تحت الاحتلال.
وهكذا فإن بعض المسؤولين العرب لا يضنّون فقط على لبنان المنكوب بتأييدهم السياسي ودعمهم المعنوي ونجداتهم المادية، بل إنهم يحرّضون “العدو” الإسرائيلي على “المغامرين” فيه الذين ضيّعوا الجهود التي بُذلت لإعادة إعماره، وبعثه بعد موته في “حروب الآخرين” على أرضه.
إن اللبنانيين الذين قدموا المثل، مرات عدة، في التضامن والتكافل والتوحّد في مواجهة الحروب الإسرائيلية عليهم، وهذه ليست أولها وقد لا تكون آخرها، يعرفون أن وحدتهم هي طريقهم إلى الخلاص، وإلى الدولة القادرة التي يبنونها بدمائهم وبدمائهم يحفظونها ومعهم تأييد الشعوب العربية جميعاً ودعمها وتقديرها وإكبارها…
وإذا كان حفظ الأوطان مغامرة فماذا يكون اغتيال كرامة الأوطان وشعوبها على يد العدو القومي، أو بالارتهان لإرادته؟!
نشرت في “السفير” 19 تموز 2006