من زمان ونحن نحلم بمثل ما نشاهد اليوم: ظهور اللبنانيين في صورة الشعب الواحد الموحد، وقد غادروا عصبياتهم المذهبية والطائفية إلى آفاق وطنيتهم وقوميتهم ومصيرهم الواحد.
كان النظام الرأسمالي المتوحش بارعاً في استغلال كل ما يمكن أن يصورهم شعوباً متنابذة، مختلفة على البديهيات المتصلة بهموم حياتهم، والتي تكرس انقساماتهم لكي يبقوا متفرقين، متباعدين، متخاصمين، محكومين بتبعيتهم “للقادة التاريخيين” الذين يندر بينهم من لم تتلوث يداه بدمائهم.
كانت بيروت التي قسَّموها إلى غربية وشرقية ونصبوا المتاريس الطائفية في قلبها وعلى جنباتها لكي يمنعوا التواصل بين الاخوة بهمومهم الموحدة ومصالحهم المشتركة، تستعيد وحدتها وتوحد هتافاتها ضد الظلم والظلام/ وتحتضن جماهير التغيير بجوانحها كافة.
وكان النظام قد أسقط من ذاكرته طرابلس الشام، فأهملها واضطهد اهلها مع اهل صيدا معروف سعد وفلسطين وصور حيث ضربت قوات المارينز الاميركية، اول مرة، ثم توالت الضربات انطلاقاً منها لتتوالى العمليات الفدائية البطولية ضد جيش الاحتلال الاسرائيلي في فلسطين المقدسة.
اما البقاع بغربه وشرقه ووسطه فساقط من ذاكرة الدولة، مهملة مدنه وقراه، ابناؤه المزارعون لا يجنون أكثر من قوت عيالهم، وشبابهم يقبلون العتبات غير المقدسة والايادي غير الطاهرة للنافذين واصحاب الكلمة، ويدفعون الرشاوى الباهظة للأقطاب وأزلامهم من اجل وظيفة دركي او شرطي او مجند او عامل تنظيفات في البلدية.
وأما عكار بشمالها الذي كان مفتوحاً على سوريا يصدر اليها ويستورد منها حاجياته فقد اقفلت الحرب في سوريا عليه (وعلى البقاع معه) ابواب الرزق، بعد أن اغرقت سوريا بدمائها، في حين ظلت البلدات والقرى في هذه المنطقة المنسية تعيش الضنك والاهمال الموجع… واما سائر انحاء هذه “البلاد” فيتزاحم اهلها مع البعلبكيين خصوصاً والبقاعيين عموما على الوظائف محدودة الدخل هربا من ..الجوع.
لقد انتبه اللبنانيون اخيرا إلى القول المأثور: عجبت لمن بات جائعا كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه.. او القول المأثور الآخر: “ما شبع غني إلا بما جاع به فقير”..
حصلت الاعجوبة، اذن، واستعاد اللبنانيون صورتهم الاصلية كشعب وليس كقطعان لقيادات الطوائف والمذاهب، واصحاب علم واجتهاد وخبرات وليس كأزلام ورعايا للزعامات التي تستغلهم وتنطق زوراً باسمهم، وتجني ثرواتها من عرق جباهم.
حصلت الاعجوبة وانتبه الشعب إلى انه واحد في هويته وفي همومه وفي طموحاته وانه هو صاحب القرار في مختلف شؤون حياته وليس من يحتكر تمثيله على مر السنين بهيمنته على ادارات الدولة والشركات والمصارف وانه يتصرف وكأنه ظل الله على الارض، وانه ـ استغفر الله ـ هو من يحيي ويميت!
اكتشف الناس أن الفساد ينخر الدولة ومؤسساتها، والقطاع الخاص الذي تتخلى عنه الدولة يوما بعد يوم ومعه واجباتها تجاه شعبها، وأنها تجيز للنافذ أن ينهب بلا محاسبة، وان يكسر القوانين بلا عقاب، وان يرتكب فضائح المخالفات والتجاوزات محصنا باستزلامه لأصحاب النفوذ.
لقد أكد الشعب وحدته كما لم تكن ساطعة، صلبة، مشعة، مزهرة، من قبل، تؤكد قوته وقدرته على التغيير والتخلص من واقع الانقسام المفروض بقوة القهر، وان إرادته- متى توحدت – لا تُهزم ولا يمسها الإنكسار.