تجيء »حكومة العهد الأولى« برئيسها الدكتور سليم الحص، ثم بقلّة من وزرائها، من موقع المعارضة للعهد الماضي، وللحقبة الحريرية فيه بشكل خاص، ويفترض بالتالي انها تعرف وبالتحديد مواقع الخلل او الخطأ، الهدر او سوء استخدام المال العام، وسائر »العورات« التي تبدت للناس، داخل السلطة »السابقة« او خارجها قبيل النهايات.
ويعرف الرئيس سليم الحص، على وجه الخصوص، ان الحكومة هي »القيادة السياسية« للبلاد، بمعزل عن اشخاص وزرائها ومدى قربهم او بعدهم عن العمل السياسي، وبمعزل ايضا عن الظروف التي املت اختيارهم هم بالذات ليكونوا »وجه العهد الجديد« وعنوانه والدليل الحسي الاول على التزامه بالقيم الثقيلة التي تضمنها خطاب القسم.
لقد وضع الرئيس اميل لحود في خطابه ذاك سقفا عاليا جدا للعهد، الجديد كما وضع عبره قاعدة صارمة لمحاسبته، وبغض النظر عما تضمنه بالقصد المقصود او بالتورية من ادانات لمن سبقه.
كذلك فإن الخطاب، ومواصفات الرئيس الجديد، وطبيعة الظروف التي رافقت اختياره، كل ذلك قد قضى نهائيا على بدعة »الترويكا« بكل ما كانت تمثله وتعنيه من محاصصة ومن تحريك للحساسيات الطائفية والمذهبية ومن اختزال للمؤسسات (التنفيذية والتشريعية والادارية وحتى القضائية والامنية)،
وتأسيسا على ما تقدم فإن انتخاب الرئيس اميل لحود قد أكد، في جملة معانيه، على اعادة الاعتبار الى المؤسسات، ورفع رئاسة الجمهورية الى موقعها الطبيعي »كمرجعية« خارج دائرة الصراعات والمناكفات، يرجع اليها »المعارضون« قبل »الموالين«، لانها ليست طرفا ولا هي لطرف من دون الآخرين.
على هذا فإن »مؤسسة مجلس الوزراء« تستعيد بدورها موقعها كقيادة سياسية للبلاد.
ان الحكومة هي »القائم بالأمر«، وهي ستظل كذلك مع انها، ولأسباب مختلفة، قد جاءت متخففة من القوى السياسية، الا أقلها، ومن القوى الحزبية، جمعاء، بغض النظر عن مدى تمثيلية الاولى وعن مدى شعبية الثانية.
وربما لأن حكومات العهد الماضي كانت، بمجملها، كثيفة التمثيل السياسي للقوى التي حكمت باسم الطائف ومن تعهده بالرعاية، بعد خلع التمرد العسكري، فإن حكومة الرئيس الحص بدت وكأنها تستبطن شيئاً من الادانة لمن كانوا اعمدة السلطة على امتداد السنوات التسع السابقة، وتوحي بما هو أكثر من التبرؤ منها بحيث تقف على عتبة »الانتقام« منها.
والناس مع المحاسبة وليسوا مع الانتقام.
وصحيح انهم قد رفعوا أصواتهم بالاعتراض على الكثير من ممارسات اطراف الحكم السابق، وكادوا يظهرون يأسهم من الاحزاب، وادانوا المسلك الطائفي والمذهبي الذي كان يستخدم لتغطية الكثير من المخالفات القانونية والارتكابات والفساد والإفساد.
لكن ذلك كله لا يعني ان الناس قد انفضوا عن السياسة، وانهم قد هربوا من السياسيين الى العلماء والخبراء والمديرين.
انهم مع الحكومة كقيادة سياسية تملك الرؤية المفتقدة للانقاذ الموعود، وللتغيير المنشود، وللاصلاح الذي بات مطلبا مزمناً وصعبا الى حد الاستحالة، وكذلك الشجاعة الكافية للمحاسبة، محاسبة الجميع، وعلى قاعدة من العدالة والنزاهة والابتعاد عن تزكية الذات بإظهار عيوب الآخرين.
ان الناس ينتظرون حكومة تخاطبهم بالحزم الذي يحتاجونه: الأمر لي! وهذه هي خطتي…
وبغض النظر عن التقييم النهائي لدور رفيق الحريري وحكوماته الثلاث، وحجم انجازها وفداحة الاخطاء التي ارتكبتها، فإنه وعلى امتداد سنوات قد شكل قوة سياسية، بل محوراً سياسياً، اضافة الى كونه، بذاته وبعلاقاته، قوة اقتصادية مؤثرة، ومصدر حركة متجددة، وطاقة متميزة حتى وهي تثير الاعتراض او الجدل او التأييد.
ان المقارنة ستكون يومية، بين حكومة العهد الاولى وحكومات العهد الماضي جميعا، لا سيما الاخيرة منها.
والمحاسبة ستكون سياسية، بالدرجة الاولى.
ولقد ولدت مع هذه الحكومة قوى معارضتها، التي قد تكون مبعثرة ومشتتة الآن، بالحذر او بالاختلاف الفعلي، في منطلقات الاعتراض، لكنها سرعان ما ستتلاقى غدا، وستجد الكثير من العناوين (القديمة او المستجدة او المجددة) لتتكتل في ظلها ولتتخذها اسلحة للهجوم الذي قد يستبطن الدفاع عما كان.
ونفترض ان الرئيس سليم الحص يعي تماماً خطورة مهمته (شخصياً)، خصوصاً وانه في موقع الصدارة، ثم انه جاء اثر خلاف دستوري في مظهره، سياسي في جوهره، وهو لم ينطو مع الاعتذار الذي جاء على شكل »ربط نزاع«، بل ارجئ طرحه (في الشارع) من باب التقيّة واظهار حسن النية، وتجنب الصدام المبكر مع عهد جاء بزخم استثنائي وبتأييد سياسي أقوى من أن تتيسر سبل مواجهته، اقله على الفور.
ان القيادة السياسية هي الحكومة.
فان هي ترددت، او تعثرت، او ارتبكت في المواجهة، لا سيما في البدايات، فان المعارضة قد تقفز لتشكيل »قيادة الظل السياسية«، مستنفرة تدريجياً المتضررين من »العهد الجديد«، وهم مبعثرون الآن، لكنهم لن يعدموا سبيلاً »للتحالف« غداً.
ونفترض ان الرئيس الحص أكثر وعياً من أن يضيِّع هذه الفرصة التاريخية التي جاءته، من حيث لم يكن يقدر، لاثبات اهليته السياسية وجدارته العلمية وقدرته على اتخاذ القرارات الصعبة (على ضرورتها)..
كذلك فان الناس عموماً، يريدون ان تنجح هذه الحكومة في التخفيف من معاناتهم وفي حل مشكلاتهم المعقدة والمكلفة، ولا يتمنون أبداً ان يروها إذا ما اخطأت او اضاعت الطريق تزود معارضاتها بالذخيرة اللازمة لقتالها.
انهم يتمنون، أولاً، ان تنجح هذه الحكومة في اثبات فشل من سبقها، وفي محاسبة كل من اخطأ عما تورط فيه، ودائماً بالقانون وليس من خلفه، وبوعي سياسي عميق وليس من خارج السياسة، في هذا البلد الذي كل مواطن فيه »سياسي محترف«.