طلال سلمان

»الحكمة وبعد نظر« بين قمتين

… والبيان الأخير لمجلس المطارنة الموارنة، بقيادة الكاردينال نصر الله بطرس صفير، يتميز، هو الآخر، »بالحكمة وبُعد النظر«، كما وصف هذا البيان خطاب الرئيس السوري بشار الأسد في القمة العربية في شرم الشيخ.
فإذا كان خطاب الأسد قد عبّر عن ضمير المواطن العربي في كل أرض عربية، وقال ما كان يتمنى هذا المواطن أن يسمعه من القمة مجتمعة، فلم يرتفع أهل القمة إليه، فإن ما أعلنه مجلس المطارنة الموارنة، ودائماً بقيادة البطريرك صفير (وبنصه)، قد عبّر عن وعي وطني بخطورة اللحظة السياسية على المنطقة برمتها، ولبنان منها وفيها، مصيره من مصيرها وسلامته من سلامتها، كما أنه عبّر عن حكمة وبُعد نظر وتقييم سليم لخطورة الدور السوري في المنطقة عموماً، وبالنسبة لضمانات السلامة في لبنان على وجه الخصوص.
أكثر من ذلك وأهم: أن هذا البيان يجيء في موقعه الصحيح في سياق هذه الحرب الكونية المفتوحة على العرب والمسلمين، والتي تستهدف في الوقت نفسه المسيحيين وبالذات منهم الكاثوليك، بشهادة مواقف البابا وفرنسا وألمانيا والجمهور في إيطاليا وإسبانيا وأميركا اللاتينية، والأرثوذكس أيضاً، بشهادة موقف الروس الذين ألزمهم الخطر بالتحالف الأوروبي في مواجهة الهجوم الأميركي (اليهودي البروتستانتي)..
ليس في البيان مجاملة أو شبهة نفاق. إنه موقف سياسي واعٍ، يؤكد عند المسيحيين العرب إجمالاً ومسيحيي لبنان خصوصاً، هويتهم الوطنية ودورهم القومي بوصفهم بعض أبناء هذه الأمة، لا هم طارئون عليها، ولا تأخذهم عقدة الأقلية الى الالتحاق بالغرب على حساب وطنيتهم وعروبتهم.
ثم إنه موقف »مسيحي« منسجم مع الكتلة المسيحية العظمى في العالم، ومع موقف البابا المعلن و»المقاتل« ولو بالصلاة، ضد الحرب الأميركية وأبطالها »الدينيين« وإن بواجهة سياسية.
كذلك فإن هذا البيان يتسم بالذكاء، لأنه تبنى مشاعر المواطن العربي في كل أرضه، الذي ميّز الرئيس السوري بشار الأسد عن »القادة« الآخرين، وأكبر فيه شجاعته وصلابته في المواجهة، مع وعيه بكلفة هذا الموقف التاريخي الذي سقطت دونه القمة العربية، ثم لحقت بها القمة الإسلامية.
* * *
… وطالما أن القمة الثانية تشابه قمة شهاب الدين الأولى، والقمة بالقمة تذكر، فلا بد من بعض الملاحظات التي لا تنتسب إلى مدرسة »الحكمة وبُعد النظر«.
فخلال أسبوع واحد قدمت »العائلات الحاكمة« العربية »عرضين« استثنائيين لكفاءاتها النادرة في قيادة هذه الأمة إلى… الاندثار!
من قمة شرم الشيخ، عند مدخل خليج العقبة، حيث يمكن رؤية »الخطر« الإسرائيلي بالعين المجردة، إلى قمة الدوحة، في منتصف الخليج العربي، حيث قاعدة الحرب الأميركية أكبر من »الدولة المضيفة«، تابع الرعايا العرب المقهورون بالاحتلال والامتهان، مسلسل التعري المثير الذي أبدعه حكامهم ارتجالاً، وعلى الهواء مباشرة، فبزوا فيه المهرجين المحترفين والشتَّامين المبرزين مستخدمين لغة عصابات القتل والاغتصاب والتزوير في آن معاً.
أزاح القادة المبجلون، أصحاب الألقاب السامية، التي تستعير من الله الجلالة، ومن الأنبياء العصمة، و»تنعم« على المولى عز وجل بشرف »حفظهم« و»رعايتهم«، تقاليدهم الأمبراطورية في الحديث الوقور، والهمس الموحي بالخطورة، وأطلقوا ألسنتهم بلغتهم البيتية الأصلية، فوصفوا بعضهم بعضاً بما يعرفه كل منهم عن الآخرين… فكانت أول مرة يجربون الصدق في الكلام، وكانت أول مرة يقبل منهم رعاياهم كلامهم على عواهنه، شاكراً لهم مصارحته بحقيقتهم!
ولقد كانت »صدمة إيجابية« للمواطن العادي:
اكتشف أنه أرقى من أبناء العائلات الحاكمة وأرصن، فضلاً عن أنه أوعى وأعظم مسؤولية عن مصير الأوطان، وليس فقط عن مصيره الشخصي… وكل هذا خارج اهتمامات هؤلاء الذين يعملون للأجنبي متبرعين، ويفتحون بلادهم للاحتلال مهللين!
دوَّت الفضيحة وانكشف المستور، فظهرت مسؤوليات هذه
»العائلات الحاكمة« عن الهزائم السابقة واللاحقة، وتبدّوا وكأنهم لا يستطيعون أن يستمروا إلا بفضلها!
كذلك افتضح المستوى الثقافي الرفيع: لا فصاحة بل ولا معرفة بالحد الأدنى من اللغة التي تشكل الوجدان (لعل الخلل في الوجدان ناجم عن النقص في معرفة اللغة، وبالتالي الجهل بالقرآن الكريم)… ونقص فاضح في الوعي السياسي، وارتهان يبرّرونه بالعجز، ومن هنا استعدادهم لافتداء عروشهم بشعوبهم والأرض ومعها النفط وسائر الثروات، إن وُجدت.
لا عجب أن يأخذنا هؤلاء إلى جهنم الاحتلال، وإلى وهدة الانحطاط السياسي والخلقي، وأن يقوموا على خدمة المحتل، يفتحون لهم مع السماء البحر ومع الأرض القصور والبيوت، داخل الوطن وفي المصايف الفخمة البعيدة.
لا عيب أن ينسوا فلسطين، وأن يتركوها تقاتل بدمها، وحيدة، السفاح الإسرائيلي، وأن يمنعوا عن شعبها حتى ثمن الخبز والدواء!
ولا عيب أن يتخلوا عن العراق ملتحقين بجيوش الاحتلال الأميركي الذي يحتقرهم ويذلهم ويعمل لخلعهم باسم »الديموقراطية«، التي يخافون منها أكثر من خوفهم من عزرائيل!
* * *
ونعود إلى بيان مجلس المطارنة الموارنة لنقول إن أهميته في أنه يؤسس لمنهج وطني في لحظة عربية مصيرية، فيرفع الحوار الى المستوى المطلوب، داخلياً، ويعزز الترابط والتكافل والتضامن بين لبنان وسوريا في مواجهة الخطر الداهم الذي يهدد المنطقة العربية بمسلميها ومسيحييها، والأقليات الأخرى.
ولقد آن أن يرتفع اللبنانيون إلى المستوى اللائق بهم، بعيداً عن المهاترات وصراعات الديوك على مزبلة سلطة عاجزة.
وليت السلطة ترتقي الى »الحكمة وبُعد النظر«، سواء أخذت بهما اقتداء بالرئيس السوري بشار الأسد، أو بمجلس المطارنة الموارنة بقيادة البطريرك صفير.

Exit mobile version