ماذا تعني قدسية اللغة العربية بالنسبة لأهلها؟ هل هي فقط أن هذه هي اللغة التي نزل بها الوحي؟ فاللغة إما تعبّر بشكل أو بآخر، أو تؤثر تأثيرا عميقا، بشكل أو بآخر، عن البنى الثقافية وربما الاجتماعية. الأرجح أنه لولا نزول الوحي بهذه اللغة لأصابها ما أصاب اللغات الأخرى من توسّع مع الفتوحات وضمور مع التراجع الجغرافي والاقتصادي لانتشارها، ولما تعرّب كثير من الناس في المجال الثقافي العربي لمجرد أنهم تحولوا الى العربية مهما كانت أصولهم الإثنية.
لا تشمل قدسية اللغة العربية اللغة الفصحى أو العاميات. تقتصر على لغة القرآن المثبتة التي لا يتغيّر فيها حرف أو مدة أو شدة أو حركة واحدة، ما يعتبر خطأ لغويا بمعنى مخالفة لقواعد اللغة الى وضعت بعد تثبيت القرآن بقرن أو قرنين. العاميات تتطوّر بتطوّر الحياة الاجتماعية في المناطق التي تتكلّم بها، وتصيبها تغيّرات محسوسة في جيل واحد نتيجة الاحتكاك بمجتمعات أخرى وتكنولوجيات جديدة. هذه تفرض نفسها في أحيان كثيرة على الفصحى. حتى الآن يتداول الناس تعبير راديو لا مذياع. والفصحى تتطوّر لتختلف عن فصحى الكتب الموروثة، بل لأنها قيد التداول في وسائل الإعلام، وهذه مضطرة الى التبسيط. مصنفات النحو والإعراب صعبة الفهم في غالب الأحيان، والقواعد كثيرة معقدة، حتى قيل “النحو منطق العرب”!
كثرة القواعد وتعقيد النحو وسهولة الاشتقاق قاد الكثيرين الى القول أن اللغة العربية “سماعية” أي أن صحة الكتابة والصياغة يعتمد على السماع لا على قواعد مكتوبة. هذا على الرغم من أن نخب القرون الإسلامية الأولى بذلوا جهوداً مضنية في تقعيد اللغة العربية (أي وضع قواعد لها). ان قواعد اللغة العربية مثل الشريعة (الفقهية) الإسلامية، لم تضعها مؤسسات الدولة بقدر ما وضعتها كتابة نخب طال الجدال فيما بينها، فكانت تزعم (وهما أو واقعا) أن ما تقوله أقرب الى لغة الأعراب، أعراب شمال الجزيرة العربية. كان الفقهاء بحاجة الى المعرفة اللغوية وقواعدها من أجل فهم لغة القرآن، كما من أجل تأليف كتب فقهية ليس منها إلا القليل من كتب أصول الفقه التي لا يبدأ واحدها بفصل أو فصول حول اللغة. شريعة حمورابي، في بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وضعتها الدولة. القانون الروماني وضع بتكليف رسمي للجان خاصة تحت إشراف الدولة. انعدام الطابع الرسمي كان له أثر كبير في تشكيل بنية اللغة الفصحى كما في شريعة الفقهاء. الفارق ليس بين السماعي والمكتوب بل بين الطابع الرسمي وغير الرسمي. لا ننسى أن التدوين بدأ منذ بداية الإسلام، والتقعيد أو بالإحرى وضع الحركات فوق الأحرف بدأ مع أبي الأسود الدؤلي بتكليف من الإمام علي بن أبي طالب.
تمنعنا قدسية اللغة من إدخال تعديلات، بالأحرى إصلاحات على الفصحى. إصلاحات تهدف الى أن يقرأ المرء كي يفهم ولا يحتاج أن يفهم كي يقرأ. ليست اللغة غاية بل وسيلة للفهم. أصبحت بتعقيداتها وكثرة الاجتهادات فيها وصعوبة تعلم نحوها وكأنها سر مصون. لغة جميلة وضرورة قومية تحتاج إليها مجتمعاتنا في زمن تهاجمها الذئاب الكاسرة من كل جانب. ما أصابنا هو أن عدم تبسيط اللغة جعل الكثيرين يعزفون عن دراستها بجدية. وكثرت الأغلاط في الخطابة وقراءة الأخبار والأحاديث العادية. وصار لكل منا عذر كي يخطئ الكلام. فكأنه يستبيح لغته بحجة أنها لغة سماع. الإصابة فيها عشوائية. وفي معظم الأحيان يخلو الكلام من الإصابة. صاروا يسمونها سماعية بسبب صعوبتها التي تزيد منها المناهج التربوية التي لا تعير الاهتمام إلا للمواد التكنولوجية؛ ذلك أن دراستها تدر رواتب أكبر للمتخصصين فيها.
إن لغة عشوائية الكلام تشير الى عشوائية المجتمع، بمعنى فقدان القانون. من لا ينضبط في الكلام وفي الفهم بالنتيجة، لا ينضبط في التعامل مع الآخرين ولا يهمه القانون ولا الأخلاق. لغة فاقدة الضوابط هي مجتمع فاقد الضوابط. فقدان الضوابط أحد أسباب الهزيمة امام تفاهة الأعداء. يصير ما ينتقل من فرد الى فرد، ومن عقل الى عقل، ليس معرفة مؤسسة على العلم وقواعده بل كلامولوجيا اللامعنى. وهي أن تقول أي شيء. والسامع ليس بالضرورة أن يفهم أي شيء.
السماح بالأخطاء في الكلام والكتابة يبيح السماح بالأخطاء في جميع نواحي الحياة الأخرى. يصير الخطأ طريقة في الحياة وأسلوب للعيش. يكاد يصير مهنة يعتاش منها أصحابها. يتعمدون الخطأ في اللغة كي يكسبوا مادياً. الأخطاء تفتعل من أجل الغش والاحتيال. يفقد المجتمع الاستقامة ويفقد سويته. النطق وسيلة للإفهام. يصير وسيلة لغيره. ضبط الكلام يعني ضبط النفس. يعني الانضباط والقابلية للتنظيم. والحداثة تعني فيما تعنيه الانضباط والقابلية للتنظيم، زائد القابلية للعمل الجماعي والتعاون، ولو كان ذلك تحت إمرة من يستغل ويظلم. الانضباط اللغوي يعلم النظام والخضوع للقانون والصبر من أجل أن يأتي العمل تاماً. ويعني أيضاً البعد عن العشوائية في سبيل الوصول الى الإتقان. وما الإتقان كما قيل إلا القيام بالعمل حتى إتمامه دون ترك آخر 5% دون إنهاء بنفس المستوى الذي بدئ به العمل؛ العمل المادي والفكري. إن عشوائية “السماع” في اللغة تعبير عن عشوائية التفكير. يصل ذلك بنا الى عشوائية المجتمع الذي يمل من عدم استقراره الناس، فيخضعون لأي طاغية يحقق بعض الانتظام في المجتمع وذلك على حساب الحريات الشخصية والعامة.
لذلك انطلقت كتب الأصول في الشريعة من فصول حول اللغة وضبطها. دون ذلك الضبط لا يمكن فهم ما أوحي به ولا شرحه ولا إيجاد قواعد للسلوك المقبول. لم يكن عبثا الانطلاق من الضبط اللغوي الذي يستحيل الفهم دونه. لا يمكن أن نبقى في حالة الفهم قبل القراءة. يتوجب إصلاح النحو وقواعد اللغة من أجل تيسير الفهم والإدراك. هي اللغة العربية التي نعتز بها ونطرب لشعرها ونثرها. الصعوبات في اللغة ناجمة عن تعقيد قواعد النحو والإعراب والصرف. ليست البلاغة في التعقيد والتصعيب بل هي في الإيضاح كما قال الجاحظ، والإيضاح يحتاج الي ضبط وتبسيط. ارتباطنا بهذه اللغة ناجم عن تعلقنا بعروبتنا لكن المطلوب أكثر من ذلك. هو التبسيط والخلاص من عشوائية السماع من أجل أن تصير لغة عصرية. ما زلنا نتعايش مع لغة نكثر في قولها الأخطاء كما نرى ونشهد في وسائل الإعلام وعلى لسان معظم السياسيين والمتحدثين في المجال العام.
يبذل الواحد منا الكثير من الجهد كي لا يخطئ في الكلام. ذلك يعيق التفكير. التفكير في صحة وإعراب الجملة، وفي نفس الوقت في صحة الفكرة التي يراد إيصالها. أمر يعيق التفكير. في أوضاعنا الصعبة، يجدر بنا أن نترك للفكر حريته، وأن لا نقيده بضرورات الكلام كما يقيده الطغاة باحكام بضرورات الاستبداد. نراوح بين الصحيح والخطأ في اللغة كما نراوح بين الحرام والحلال في الدين. عند تبسيط اللغة يصير معظمها في مجال المباح والمستحب، ويحلو الكلام بها ونطرب لحاضر كلامها كما نطرب لشعر المعلقات. يصنع النحاة واللغويون من البلاغة سرا لا يناله أو يصل إليه إلا من نال الدرجات العليا في العلم من الأصول الدينية. فكأن تلك مهنة. وكأن للمهنة سرا. وكأن الأسرار لا يصل إليها إلا الأخيار.
تصعيب اللغة وتعقيد قواعدها يبعد الجمهور عنها كما أبعدت اللاتينية الجمهور الأوروبي عن دين يجب أن يُفهم، فكان لجوء العامة الى العامية واستبعاد اللاتينية وثورة الإصلاح الديني، وحرب إصلاح، وإصلاح مضاد، دامت قرنا ونصف. ليس في التعقيد خطرا على قدسية اللغة وقدسية القرآن الكريم. الخطر هو على الفهم والإدراك والعقل لدى العامة. ما دام العامة مستبعدين عن الفهم، سيبقى الاستياء سيد الموقف، ويكون سدنة الهيكل ( هيكل اللغة المعقدة) قد أسدوا للاستبداد خدمة كبيرة. ليس المراد لغة تظلم كما ليس المراد طاغية يظلم. ليس المراد عامة تجهل كما ليس المراد كهنة لغة تحتفظ بسر المهنة دون العامة. حركة الإصلاح الديني كانت منطلق انفتاح العلمي وتقدم الغرب علينا. وكانت للمطبعة التي اخترعت قبل الإصلاح الديني والثورة البروتستانتية أثر كبير في انفتاح اللغة على العامة ونشر الدين وتوسّع الفهم والإدراك. في الزمن ذاته منعت المطبعة عندنا، إذ خافت منها النخب الدينية والثقافية، وكان ذلك سببا في تدهور وانحطاط الدولة العثمانية. بقي على المؤرخين أن يحسبوا أهمية هذا المنع والإغلاق الذي نادراً ما يُذكر في كتاباتهم التاريخية حول الانحطاط والتراجع الإسلامي. المطبعة مكان النساخ جعلت المعرفة متاحة للعامة وفجرت منظومة فكرية كانت مغلقة وكان لها هيكل وسدنة.
على أثر اختراع المطبعة رخص ثمن الكتب في الغرب وانتشرت الجرائد. صارت المعرفة مباحة ولم تعد مغلقا عليها بين مقدسات السدنة. وتحريم المطبعة عند ظهورها في المجتمعات الإسلامية لمدة قرون ثلاثة بعد اختراعها أدى الى هوة ثقافية بين مجتمعاتنا والمجتمعات الغربية لم تردم حتى الآن. المجتمعات التي استهانت بالمعرفة، والأهم من ذلك، استهانت بنشر المعرفة هي التي حفرت قبرها بيدها إذ أصابها التأخر في نفس الوقت الذي تخلت أوروبا عن اللاتينية، وتبنت اللغات المحلية واستخدمت المطبعة وتبنت وسائل النشر بأسعار رخيصة للكتب والصحف. حققت المعرفة واكتشاف البحار والأفلاك ومختلف العلوم أسبابا للقوة، ما أدى الى استعمار بلادنا التي بقيت حتى القرن التاسع عشر المعرفة فيها مقتصرة على نخب معزولة، تقرأ المنسوخة وتشتريها بأسعار غالية.
قيل الكثير عن أسباب تخلّف بلادنا وتراجعها أمام الغرب. هذا التخلف الذي بدا واضحاً في القرن الثامن عشر. لكنه بدأ في القرن السادس عشر عند منع حكام بلادنا المطبعة بعد أن اخترعت في الربع الأخير من القرن الخامس عشر. قبلها كان ميزان التطوّر والتقدم مقارنة بالغرب لصالح مجتمعاتنا. هذا علما أن الطباعة وغيرها من المكتشفات التي أدت الى تقدم الغرب بالنسبة لنا، هي أساس مكتشفات بدأت في الصين والهند وفي بلادنا. لكننا لم نعرف الاستفادة منها. بقينا قروناً نسمي الميكانيكا علم الحيل ونستخدمه للتسلية.
المعرفة ليست مجرد تسلية ترفيهية تقوم على أطراف المجتمع والدين. وليست المعرفة في المجتمع هي الدين وحسب. المعرفة عمل ودأب وجهد يؤدي الى إنتاج وتقدم. يتقدم المجتمع عندما تنتقل المعرفة من أطراف المجتمع الى مركز وعيه، ويصير الدين هامشاً ضرورياً على أطراف وعيه. حصل ذلك في الغرب مع هذا الانتقال، فانفتح المجتمع وبدأ الاجتهاد بالانتقال من المعلوم الى المجهول. بدأ عصر الاكتشافات الجغرافية والذهنية بعد المطبعة بعقود قليلة. كذلك الإصلاح الديني (ثم الإصلاح المضاد)، وكلاهما في العقل الغربي. وفي أساس كل ذلك الثورة اللغوية.
لكن لا يصيب لغتنا ما أصاب اللاتينية (والأرامية من قبل، وقد كانت لغة لينغوا فرانكا، يعم استخدامها في المنطقة حتى في دواوين الفرس). يترتب علينا الشروع في ثورة لغوية تجعل الفهم لاحقاً للقراءة لا سابقاً عليها. نفهم باللغة وتداولها. الاتصال والتواصل بين البشر هما في الأصل لغويان. ما دامت اللغة صعبة المنال، وقواعدها مغلقة إلا عند من لديه سر المهنة، فإن ثورتنا الفكرية والمعرفية ستبقى عرجاء. لغتنا الجميلة، التي نعتز ونفخر بها، يجب أن يكون إصلاحها في تبسيطها وتعميمها على كل البشر في مجتمعاتنا. وذلك سيكون في أساس ثورة التقدم والخروج من قمقم المجتمع المغلق. آن لهذا العملاق أن يخرج من القمقم.
ربما كان في هذه اللغة احتمالات عديدة للتطوّر، وربما كان ذلك يفوق ما في كثير من اللغات الأخرى. لكن كل ذلك التطوّر لن يحصل دون تطوير اللغة بتبسيط قواعدها ونحوها. قيل اللغة منطق العرب ونحتاج الى منطق جديد للخلاص من صعوبات تؤدي الى كثرة الأخطاء والعشوائية، وما يكاد يحيل لغتنا الى الموت. كثرة الأخطاء اللغوية فيما هو مكتوب أو منطوق يبيح العشوائية. الإصلاح يعني تبسيطاً بجعل الانضباط ممكناً. تبنى المجتمعات بالانضباط الطوعي.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق