تتهاوى الدول العربية، وكأنها من كرتون، ملحقة أشد الأذى بفكرة “العروبة” وبالأحلام السنية بالوحدة والتقدم والعدالة الاجتماعية.
ولقد أخذ الضعف بل التهالك معظم الدول العربية إلى احضان “الاستعمار” ولو جديداً، بجواز سفر أميركي تسقط معه حواجز العداء مع “اسرائيل”، كدولة عادية وكيان استيطاني طارد لأهل الارض الذين كانوا دائماً أهلها: الفلسطينيين.
يكاد يصبح “الاستقلال” من الذكريات، والوحدة من الاحلام، اما الاشتراكية والعدالة الاجتماعية فحديث خرافة يا ام عمرو..
سادت الكيانية محتمية، مرة أخرى، بالقوات الاجنبية تحت الراية الاميركية، واندثرت او تكاد الروابط السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الشعوب العربية التي كانت ترى نفسها امة واحدة يجمعها الطموح إلى الحرية والاشتراكية والوحدة.
صارت لقاءات القمة العربية محطات للتوافق على مزيد من التنازلات عن الحقوق الوطنية العربية بعنوان “فلسطين”، وبالتالي على مزيد من القبول بل الاستسلام للكيان الاسرائيلي الذي اسقطت عنه دمغة العداء، وصار حليفا لبعض الانظمة العربية ضد الامة بماضيها وحاضرها ومستقبلها..
صار القرار العربي اميركيا، في الغالب الاعم، وبالتالي اسرائيليا.
اندثرت جامعة الدول العربية والمؤسسات المنبثقة عنها والتي كانت تجسد ـ ولو بعناوينها ـ الطموح العربي إلى الحد الادنى من الوحدة، من السياسة إلى الاقتصاد بمجالاته المختلفة (الصناعة والزراعة والتجارة) وصولاً إلى اللغة بقواعدها ومحاولة تحديثها بالحذف والاضافة..
تباعد اهل النظام العربي إلى حد الاحتراب..
واستقوى اهل الثروة من العرب على اخوتهم الفقراء فأذلوهم واستتبعوهم وفرضوا عليها مواقف كانوا يرفضونها وسياسات وتحالفات كانوا يقاتلونها.
أسقطت القاهرة بضربة كمب ديفيد والصلح مع العدو الاسرائيلي، على حساب العرب أجمعين ودماء الشقيق السوري ـ الشريك في الحرب التي كادت تنتصر ثم أجهض انتصارها بوقف السادات القتال تاركاً لإسرائيل فرصة الاندفاع بقوتها مجتمعة ضد الجيش السوري..
تاهت الثورة الفلسطينية، التي كانت قيادتها ماكيفيلية، بين متاعب الكفاح المسلح المفتوح على المجهول واغراءات “السلطة” ولو مجتزأة ومرتهنة للاحتلال، وعلى بعض الارض لدويلة اسيرة مقابل التنازل عن كل الارض لدولة قوية بذاتها وبالسند الاميركي الذي يراها طليعة اجتياحه الارض العربية، مستغلاً خصومات الأسر المالكة وخلافات الانظمة وبُعدها عن ناسها..
تحولت الانظمة الجمهورية إلى ملكيات فقيرة تنافس ـ بلا جدوى ـ الملكيات والامارات الغنية، فاذا ما تصرفت معها بمبادئ الاخوة ردت عليها.. باللغة الانكليزية ذات اللكنة الاميركية.
ثم تقدم الاستعمار الجديد خطوة حاسمة، بعد حملة تخويف ضارية من “الخطر الايراني” معززاً بخطر صدام حسين، فلما اجتاح الاميركيون العراق تعاظم النفخ في الخطر الايراني، لا سيما بعد تفجير الوضع في سوريا بالحرب فيها وعليها، وبعد نجاح “حزب الله” في لبنان في مقاومته الباسلة والطويلة ضد الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان في ايار العام 2000، ثم في صد الاجتياح الاسرائيلي في حرب تموز 2006، وهكذا صورت إيران ـ الثورة الاسلامية وكأنها أخطر من العدو الاسرائيلي والاستعمار الغربي بالعنوان الأميركي، معاً.
وهكذا، ونتيجة ظروف متعارضة، غيبت الدول العربية ذات التاريخ المضيء والدور البارز في التقدم والتحرر ومواجهة العدو الاسرائيلي وتصدرت دول النفط المشهد العربي، فارضة على الجامعة العربية التراجعات المتوالية في موضوع فلسطين خاصة، بل انها تمكنت، ذات يوم، من “طرد” دولة مؤسسة لهذه الجامعة منها، بتحريض قطري واستجابة خليجية وسائر الانظمة الملكية، مع تحفظ جزائري يتيم وصمت عراقي وحرج لبناني لم يصل الى حد الاعتراض، وان كان في تلك اللحظة، لا يجدي.
غيبت المشكلات الداخلية وأخطرها الفقر مصر، ثم جاء اجهاض الانتفاضة بالجيش، الذي وفر للإخوان الفرصة للانقضاض على الحكم وتسلم الرئاسة، لكن هذا الجيش نفسه سرعان ما انقلب على الاوضاع، فاعتقل الرئيس الإخواني وجاء بواحد من ضباطه ليكون “الرئيس” لفترة اولى ثم لفترة رئاسية ثانية، وقد التقى على تأييده واحتوائه الاميركيون وأهل النفط والادارة الاميركية.
لكن التنافس بين أهل النفط والغاز على الزعامة سرعان ما أعاد إلى السطح خلافات قبلية كامنة، وتقدمت قطر بثروتها الهائلة والطموح غير المشروع لقيادتها، وهو بين ما أخذها، أخذها إلى العدو الاسرائيلي قبل شركائها ـ الاعداء، مظللة بالرضا الاميركي وبعض الحماية التركية، والافادة الايرانية، والفرح الاسرائيلي بهذا التصدع العربي الجديد بين أهل الثروة من العرب بعد اختفاء اهل الثورة… كل ذلك جعل العرب يتقهقرون حتى حافة الخروج من التاريخ.
تصاغرت الدول العربية الكبرى وذات التاريخ المجيد في حركة الثورة العربية، وتضاؤل نفوذ مصر المكبلة بفقرها الذي جعلها مرتهنة للنفوذ الاميركي والحاجة إلى “الدعم” المباشر والمكلف من اهل الثروة، وأخفى الاحتلال الاميركي العراق عن مسرح التأثير على القرار العربي، وغُيبت سوريا تحت ركام مدنها المهدمة نتيجة الحرب فيها وعليها.
وهكذا دخل “العرب” في غيبوبة كادت تخرجهم من التاريخ، وأعادت دولهم إلى احضان التبعية الاستعمارية، بالقيادة الاميركية ـ الاسرائيلية.
ولسوف يطول انتظارنا فجر الغد العربي، الآتي بلا شك، مهما طال الزمن!
تنشر بالتزامن مع السفير العربي