لم يسبق أن تعرض شعب لمثل الخيار البائس المفروض على الفلسطينيين: ألغوا هويتكم فنعترف بكم كلاجئين. انسوا ألوان عيونكم وسمرة جباهكم، انسوا آباءكم وأجدادكم، انسوا أرضكم التي تدعون أنها كانت وطنكم، فنحنُّ عليكم ببطاقة لاجئ وبعض الأرز والسكر والطحين.
حتى اليهود الذين صاروا «بدلاءنا في وطننا» كانوا مواطنين يحملون هويات البلاد التي يعيشون ويموتون فيها… وعندما قرروا ـ بمساندة العالم كله ـ اجتياح وطننا وطردونا من جنته كي يقيموا «دولتهم» فوق «أرضنا»، شطب العالم هويتنا التي مصدرها أرضنا وزوّر لها هوية لم تكن لها في أي يوم، ليخرجنا منها… ليلغينا كشعب. من لا وطن له لا هوية له.
يعيش الفلسطينيون الآن بمئة هوية طارئة أو مستجدة، لا تلغي كونهم «لاجئين» وتنفي حقهم بدولة. ليسوا أغراباً في وطنهم. إنهم لا أحد. إسرائيل تعاملهم كطارئين، كغائبين حضورهم هيولي وموقت، لا لهم «جنسيتها»، ولا هم يملكون جنسية دولة أخرى، فإن امتلكوا مثل تلك الهوية كانوا كمن يغتال وطنه.
إنهم غائبون في حضورهم، ومغيبون إذا ما انتسبوا إلى فلسطين.
إنهم الآن أشبه بشتات من القبائل المهاجرة: بعضها داخل الداخل لكنهم لا وجود لهم، وبعضهم في الأردن ضيوف طامعون في الملك، وفي سوريا أخوة أعزاء في زيارة مفتوحة لهم فيها حقوق المضيف جميعاً ما عدا هويته، وفي لبنان طارئون يخلون بالتوازن الهش في الدولة التي تعتبر الأم الولود فيها «هدامة» و«معادية للنظام» الذي ما زال يعتمد إحصاء «رعاياه» الذي كان في العام 1932.
في التقديرات أن عددهم يتجاوز الخمسة ملايين… وهم كانوا حتى اتفاق أوسلو (1993) «فلسطينيين»، لكنهم بعد ذلك شطبوا من أي إحصاء.
قبل ذلك كانوا مشاريع فدائيين يحلمون بأن يحملوا دماءهم على أكفهم، على طريق العودة.. بعد أوسلو سدت الطرق وأسقطت عنهم الهوية مجدداً فصاروا غائبين في حضورهم، برغم أنهم حاضرون حتى في الغياب.
إنهم «أمم شتى»، يعيشون وطنهم في أحلامهم، ولكنهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى حفظه في قلوبهم أو في الذاكرة حتى لا يشاغب عليهم حضوره فيهدد حضورهم. تعيش لاجئاً بلا هوية محددة أو تخسر فلسطين، فتكون بأن لا تكون!
هذا العدد من «فلسطين» عن الوطن الذي فقد أهله ففقدوه… لكنهم ما زالوا وسيبقون من فلسطين ولها حتى آخر نفس.