في الحلقة 23 من كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الاسرائيلية”، يروي الكاتب “الإسرائيلي” رونين بيرغمان سيرة أول عمليات خطف الطائرات الإسرائيلية التي قام بها الفدائيون الفلسطينيون في الأعوام 1968 و1969 و1970.
إثر سياسة القبضة الحديدية في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلين، غداة حرب الايام الستة عام 1967، انتقلت منظمة التحرير الفلسطينية الى اللعب على المسرح الدولي بحسب، رونين بيرغمان، مستنداً إلى مقابلات أجراها مع مسؤولين في الاستخبارات “الاسرائيلية” ووثائق استحصل عليها.
يشير بيرغمان الى ان أبرز اللاعبين الفلسطينيين على المسرح (الفدائي) العالمي، كانوا ثلاثة قادة: وديع حداد وجورج حبش من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وصلاح خلف (ابو اياد) من حركة فتح. وبحسب النصوص التي يستند اليها بيرغمان، فان ابرز عمليات الجبهة الشعبية كانت تلك التي قامت على خطف طائرات العال “الاسرائيلية” من دول مختلفة والتفاوض على اطلاق سراح اسرى فلسطينيين مقابل رهائن إسرائيليين، فيما كانت ابرز عمليات “ابو اياد” هي تلك التي قادها “أبو داود” وإستهدفت مقر اقامة الوفد الرياضي “الاسرائيلي” في أولمبياد ميونيخ وأدت إلى مقتل عدد كبير من الرياضيين “الإسرائيليين”.
يبدأ بيرغمان روايته من عند عملية اختطاف طائرة “العال 426” من مطار ليوناردو دا فينشي الايطالي في روما في 23 يوليو/ تموز 1968: الهدف هو طائرة من طراز بوينغ 707 كان على متنها 38 راكبا، بينهم طاقمها “الاسرائيلي” المؤلف من عشرة اشخاص اضافة الى 12 راكبا اسرائيليا. هذه الطائرة اقلعت في الساعة 22:30 ليلاً، بتوقيت غرينتش، وكان من المفترض نزولها في مطار “تل ابيب” عند الساعة 1:18 فجراً، ولكن بعد عشرين دقيقة من اقلاعها اقتحم ثلاثة نشطاء فلسطينيين (يسميهم الكاتب ارهابيين) قمرة القيادة، فظن قائد الطائرة انهم سكارى، وطلب من احدى المضيفات سحبهم، ولكن أحدهم إستل مسدسا ووضعه في وجه القبطان “ماووز بورات” الذي سارع وضرب يد الفدائي الفلسطيني سعياً إلى اسقاط المسدس منه، ولكنه لم يفلح بل ان حامل المسدس سارع الى ضرب “بورات” على رأسه بعقب المسدس، ما ادى الى اصابته بجروح قبل ان يطلق عيارا ناريا نحوه من دون ان يصيبه، ثم اخرج الخاطف قنبلة يدوية من جيبه ولكن “بورات” سارع الى القول له انه على استعداد لأن يحط بالطائرة حيث يريد.
وعند الساعة 23:07، تسلم برج المراقبة في روما رسالة تقول ان الطائرة على علو 33 الف قدم (حوالي 3300 متر) عن سطح الارض وانها غيرت اتجاهها نحو الجزائر حيث حطت هناك عند الساعة 00:35 بعد منتصف الليل، وذلك بعد حصولها على موافقة السلطات الجزائرية. قبل الوصول الى الجزائر، وخلال تلك الرحلة، اعلن الخاطفون لكل من يسمع نداءات الطائرة انه تغير اسم المناداة ليصبح “تحرير فلسطين 707”. وعند وصولها الى مطار العاصمة الجزائرية، اطلق الخاطفون كل الركاب غير “الاسرائيليين” وكل النساء والاطفال وابقوا على سبعة من اعضاء طاقم الطائرة وخمسة ركاب كرهائن في احد الابنية التابعة للشرطة الجزائرية قرب المطار، وذلك لمدة ثلاثة اسابيع ولم يطلق سراحهم إلا مقابل اطلاق سراح 24 اسيرا فلسطينيا من السجون “الاسرائيلية”.
حققت الجبهة الشعبية في هذا الهجوم “انتصارا تكتيكيا آنيا عبر اثبات قدرتها على تنفيذ هجوم على طائرة مدنية اسرائيلية وبالتالي وضع القضية الفلسطينية تحت الضوء في كل انحاء العالم، كما انها اجبرت سلطات تل ابيب على التفاوض مع منظمة ترفض الاعتراف بوجودها وان تفرض عليها التنازل المذل”
خطف طائرة “العال 426″، حسب رونين بيرغمان، “كان هجوماً مفاجئاً نفذته مجموعة فلسطينية جديدة تطلق على نفسها اسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي كانت قد تأسست في دمشق في ديسمبر/ كانون الاول (قبل ثمانية اشهر من هذه العملية) على يد لاجئين فلسطينيين كلاهما ماركسي ومسيحي ارثوذكسي وطبيب اطفال من خريجي الجامعة الاميركية في بيروت، أولهما جورج حبش من مدينة اللد وثانيهما وديع حداد من مدينة صفد.
حققت الجبهة الشعبية في هذا الهجوم “انتصارا تكتيكيا آنيا عبر اثبات قدرتها على تنفيذ هجوم على طائرة مدنية اسرائيلية وبالتالي وضع القضية الفلسطينية تحت الضوء في كل انحاء العالم، كما انها اجبرت سلطات تل ابيب على التفاوض مع منظمة ترفض الاعتراف بوجودها وان تفرض عليها التنازل المذل، والاسوأ من كل ذلك ان “اسرائيل” اجبرت بهذه العملية على القبول بعملية تبادل بين الرهائن الاسرائيليين واسرى فلسطينيين لديها، وهو ما قالت انه لن يتكرر ابداً”، ويضيف بيرغمان أن خطف هذه الطائرة “لم يكن سوى مقدمة لما هو آت، فالجهود التي بذلها الجيش “الاسرائيلي” وجهاز “الشين بيت” كانت قد نجحت في خفض العمليات الفدائية في المناطق المحتلة وعلى طول الحدود ولكنها لفتت نظر ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية الاخرى، الى ان العالم يشكل مسرحا للعمليات اكبر بكثير من قطاع غزة والضفة الغربية. اذ يمكن للعمليات (التي يصفها بيرغمان بالارهابية) ان تحصل في اي مكان ولم تكن اوروبا الغربية مهيأة لمواجهتها، فالحدود كانت شبه مفتوحة والعوائق في المطارات والمرافىء البحرية كانت سهلة الاختراق وقوات الشرطة كانت متراخية وغير كفوءة، في المقابل، كانت الحركات الطلابية اليسارية (الأوروبية) متعاطفة مع الفلسطينين ذوي الميول اليسارية فيما المنظمات اليسارية الاوروبية المتطرفة مثل “بادر ماينهوف” الالمانية و”الالوية الحمراء” الايطالية تقدم للفلسطينيين الدعم اللوجستي والتعاون العملياتي.
بعد اقل من عام على خطف طائرة “العال 426″، انطلقت طائرة تابعة لشركة طيران “تي دبليو ايه” الاميركية في رحلة رقم 840 من مطار لوس انجلوس الى تل ابيب وعلى متنها 120 راكبا، ستة منهم اسرائيليين فقط، وطاقم مؤلف من سبعة اعضاء. توقفت الرحلة في نيويورك ثم في روما للتزود بالوقود، ولكن بعد نصف ساعة من انطلاقها نحو محطتها الاخيرة وفيما كانت تحلق في أجواء اثينا، كان اربعة فلسطينيين استقلوها في محطة روما قد بدأوا بتنفيذ عمليتهم. شهر احدهم مسدسا بوجه احدى المضيفات وطلب منها ان فتح قمرة القيادة، وفوجىء مساعد القبطان “هاري اوكلي” بإمرأة تقف خلف المسلح، وهي تحمل قنبلة يدوية، وقد وصفت المضيفة “مارغريتا جونسون” هذه المرأة بالقول إنها كانت ترتدي احدث ثياب موضة تلك الأيام مع قبعة بيضاء اللون.
يقول رونين بيرغمان إن هذه المرأة “الجذابة” امرت قائد الرحلة بتغيير وجهة طائرته لتطير فوق مدينة حيفا، التي قالت انها ولدت فيها ولن يسمح لها الصهاينة بالعودة اليها، ولم تكن تلك السيدة سوى ليلى خالد المولودة في العام 1944، أي في العام نفسه الذي اجبرت فيه عائلتها على مغادرة هذه المدينة الساحلية بعد قتال شرس وتوجهت الى لبنان بامل العودة بعد انجلاء دخان الحرب. لكن سلطات الاحتلال منعت عودة اللاجئين فنشأت ليلى خالد في احد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في مدينة صور الساحلية في جنوب لبنان حيث اكتسبت معارفها السياسية لتتحول وهي في سن الخامسة عشرة الى ناشطة في صفوف الفرع الاردني لـ”حركة القوميين العرب” العلمانية الاشتراكية التي كان يرأسها جورج حبش الذي اسس لاحقا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
تحولت ليلى خالد بعد هذه العملية الى ايقونة ورمز كبير لتلك المرحلة، فهي افضل “ارهابية” في العالم وكُتبت عنها مئات المقالات في صحف عالمية ودخل اسمها في الاغاني التي تحيي النضال من اجل الحرية وطبعت لها صور كبيرة بالاسود والابيض وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية وتحمل رشاش الكلاشنكوف
لم يكن الهجوم على طائرة “تي دبليو ايه 840” هو الأول لليلى خالد، حسب بيرغمان، ففي 18 فبراير/ شباط 1969 شاركت ليلى خالد في التخطيط لهجوم على طائرة “العال” من طراز بوينغ 707 قبيل اقلاعها من مطار زيوريخ عندما قام اربعة من عناصر الجبهة الشعبية يحملون رشاشات كلاشنكوف وقنابل يدوية بالهجوم على قمرة قيادة الطائرة بعد ان تسللوا الى المدرج وامطروا القمرة بوابل من الطلقات النارية، ما ادى الى اصابة قاتلة لمساعد القبطان، ويضيف بيرغمان ان ليلى خالد كانت لها اليد الطولى مباشرة او بصورة غير مباشرة في عدة هجمات اخرى غير ان خطف الـ”تي دبليو ايه 840″ كان الهجوم الذي اعطاها شهرة واسعة.
يواصل بيرغمان رواية خطف الطائرة الاميركية قائلا انه بعد ان قامت الطائرة بناء على طلب ليلى خالد بجولة فوق مدينة حيفا بمرافقة الطائرات الحربية الاسرائيلية التي لم يكن باستطاعتها فعل اي شيء خوفا من التسبب بقتل الركاب، تمكنت الطائرة من الهبوط بسلام في مطار دمشق حيث جرى اطلاق سراح كل افراد الطاقم والركاب باستثناء اسرائيليين استبقيا كرهائن لمدة ثلاثة اشهر، حيث اطلق سراحهما مقابل الإفراج عن جنود سوريين اسرى لدى “اسرائيل”.
يضيف بيرغمان أن ليلى خالد “تحولت بعد هذه العملية الى ايقونة ورمز كبير لتلك المرحلة، فهي افضل “ارهابية” في العالم وكُتبت عنها مئات المقالات في صحف عالمية ودخل اسمها في الاغاني التي تحيي النضال من اجل الحرية وطبعت لها صور كبيرة بالاسود والابيض وهي ترتدي الكوفية الفلسطينية وتحمل رشاش الكلاشنكوف وتضع خاتما مخيفا في اصبعها قالت انها صنعته بنفسها من صمام امان لقنبلة يدوية”.
وفي السادس من سبتمبر/ ايلول عام 1970، حاولت ليلى خالد واحد رفاقها خطف طائرة “العال” من اوروبا ولكن القبطان يوري بارليف الذي كان ضابطاً سابقاً في سلاح الجو، قاد الطائرة بوضعية الغطس السريع والمفاجىء الأمر الذي جعل الخاطفين يفقدان توازنهما ويقعان ارضا فيما قام احد عناصر “الشين بيت” السريين على متن الطائرة باطلاق النار على احدهم وقتله وخرج عنصر أمن سري آخر من قمرة القيادة وسيطر على ليلى خالد، وتم تسليمها للسلطات البريطانية في لندن حيث حطت الطائرة هناك. وفيما لم تنجح “خالد” في هذه العملية، تمكنت اربع مجموعات للجبهة الشعبية من النجاح في تنفيذ أربع عمليات خطف لطائرات تابعة لاربع شركات طيران هي “بان آم” و”سويس ايرلاينز” و”تي دبليو ايه” و”بواك” في آن معاً، وتمكنوا من اقتياد الطائرات المخطوفة الى الاردن وطالبوا باطلاق سراح ليلى خالد والعديد من رفاقها. اطلق الخاطفون سراح كل ركاب الطائرات الاربع باستثناء 55 يهوديا وافراد الطواقم الذين اقتيدوا الى احد الاحياء الفلسطينية في العاصمة الاردنية عمان بعد ان قام الخاطفون بتفجير الطائرات على ارض المطار على مرأى من عدسات التصوير العالمية.
ذلك اليوم لم يكن “اليوم الاكثر سوادا في تاريخ الملاحة الجوية”، حسب رونين بيرغمان، بل كان أيضا “يوماً اسوداً للملك الاردني حسين الذي وصفته الصحافة العالمية بـ”الاحمق” و”غير الكفوء” و”الفاقد للسيطرة على مملكته”. كان الفلسطينيون حينها يشكلون غالبية سكان الاردن وكان الملك حسين يخشى، وهو محق، بان يفتح هذا الامر شهية ياسر عرفات والمنظمات الفلسطينية على سلبه مملكته بعد ان اصبحوا يتصرفون فيها وكأنها بلادهم. وجاءت عملية الطائرات المخطوفة لتشكل احراجا عالميا كبيرا للملك حسين تبعتها محاولة لاغتياله على يد مجموعة فلسطينية. كل ذلك ادى الى ان يرد الملك حسين بقوة وشراسة على الفلسطينيين، فأمر الجيش الاردني والشرطة واجهزة استخباراته بشن هجوم دموي على الجماعات الفلسطينية دام لمدة شهر كامل، ما ادى الى ارتكاب “مجزرة ايلول الاسود” التي راح ضحيتها آلاف الفلسطينيين واجبرت فيها منظمة التحرير على مغادرة الاردن واعادة التموضع في لبنان (العرقوب) حيث بدأ كوادرها عملية اعادة بناء القدرات من جديد.
يقول رونين بيرغمان ان حركة فتح كانت الاسرع في اعادة لملمة اوضاعها التنظيمية واطلاق “موجة ارهاب عالمي جديدة”، الأمر الذي برّره القيادي في الجبهة الشعبية بسام ابو شريف بالقول ان الهدف كان “ان نظهر للعالم ان ابعادنا من الاردن لم يضعفنا على الاطلاق”.
الأكيد أن تلك العمليات أربكت القيادة السياسية “الاسرائيلية” وابرزت عجز اجهزة استخباراتها امام دقة التخطيط والتنفيذ ووضعت، في الوقت نفسه، القضية الفلسطينية على اجندة العالم.
ينشر بالتزامن مع موقع post180