قريبا من “شارع الحمراء” بقلب العاصمة اللبنانية بيروت، يقع مبنى جريدة “السفير” التي ارتبط اسمهما بلبنان تماما مثلما ارتبط اسم لبنان بشجر الأرز وأغاني فيروز. وفي الطابق الخامس من المبنى الذي شهد مرور كبار عمالقة الصحافة العربية يقف طلال سلمان، كآخر رمز من رموز الصحافة العربية واللبنانية مثل شجرة أرز تأبى الانحناء لكل العواصف التي ضربت وما زالت تضرب لبنان والمنطقة بأكملها.
لا يمكن الحديث عن جريدة “السفير” دون الحديث عن مؤسسها طلال سلمان،. تماما كما لا يمكن فصل مسار الجريدة عن مسار صاحبها. مِحن طلال سلمان من مبدئية الخط التحريري لجريدته، ومشاكل جريدته نتيجة لصلابة مواقفه. كلاهما يحمل آثار أربعين عاما ونيف من الصراع والنضال خلفت ندوبا على وجه طلال سلمان نتيجة محاولة اغتياله الفاشلة، وأثارا متبقية من سنوات الحرب الأهلية ومحاولات تفجير مطبعة الجريدة في ثمانينات القرن الماضي.
“إذا كان طلال سلمان هو مؤسس “السفير” وصاحبها، فإن شخصية “حنظلة” هي رمزها، و”حنظلة” لا يموت”.
علي أنوزلا
أطلق طلال سلمان جريدة “السفير” عام 1974، سنة بعد حرب 1973، التي بعثت الأمل من جديد في جسد الأمة، كما يقول. حملت الجريدة عند انطلاقها شعار “صوت من لا صوت لهم”. وطيلة أربعة عقود من المحن والصراعات والحروب والأزمات، تعرض صاحبها لمحاولة اغتيال وللعديد من المحاكمات، وتعرضت مطبعتها للتفجير ومقرها للقصف، وتعرضت هي للتوقيف. ومع ذلك استمرت، حتى في عز الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، في الصدور من تحت الأنقاض وتوزع من فوق المتاريس.
تلك أيام قد خلت لأهلها ما كسبوا وعليهم ما اكتسبوا، وبقيت “السفير” وصاحبها عنوانين على غروب عربي طويل وكئيب. يتذكر طلال سلمان تلك الأيام بأسى وحنين وهو يجلس داخل مكتبه المتواضع تزينه لوحات رفيق دربه في مهنة المتاعب الفنان الفلسطيني الراحل ناجي العلي، الذي ترصع شخصيته “حنظلة” كل مبنى الجريدة ومكاتبها وأروقتها. يقول طلال سلمان، الذي يطل بعمره المديد على الثمانين، إن “الصحافة مهنة خاسرة” عندما تكون منبرا للدفاع عن قيم الحق والحرية.
وبالرغم من المحنة التي تمر بها الجريدة والتي دفعت مؤسسها قبل أسابيع إلى إعلان قرب إغلاق نسختها الورقية، يحتفظ طلال سلمان في نبرة صوته الهادئة ببصيص الأمل، وهو ما دفعه كما قال، إلى بيع بعض ممتلكاته الخاصة ليصرف على الجريدة في انتظار أن تأتي أيام أحسن من هذه التي تمر بها المنطقة العربية.
يعدد طلال سلمان عدة أسباب موضوعية، دون أن يقف عند أي منها، أدت إلى الأزمة الحالية التي تعيشها “السفير” من تراجع التوزيع بسبب تراجع القراءة، إلى تدني مداخل الإعلان والاشتراك، وأخيرا وليس آخرا ظهور منافس “غير شريف” ممثل في الانترنيت. لكنه عندما يأتي على ذكر الأسباب السياسية تكتسي نبرة صوته مسحة من الحزن والأسى وهو يتحدث عن “نهاية السياسة” في بلده الذي يعيش بلا رئيس وبلا برلمان تتقاذفه صراعات دكاكين سياسية، وفي المنطقة العربية من الخليج إلى المحيط الذي يقول إن ما تحكمه اليوم هي عصابات بلا أخلاق ولا مبادئ ولا ضمير.
إذا كان طلال سلمان هو مؤسس “السفير” وصاحبها، فإن شخصية “حنظلة” هي رمزها، و”حنظلة” لا يموت. اغتيل ناجي العلي وبقي “حنظلة” الذي رأى النور لأول مرة على الصفحة الأخيرة من جريدة “السفير” عام 1974، طفلا متمردا خالدا لا يكبر ولا يموت، وعندما سيذهب طلال سلمان، بعد عمر مديد، ستبقى “السفير” رمزا من رموز بلاد الأرز وجزء من الذاكرة الجماعية لجيل صنع أبهى سنوات الصحافة العربية، وترك عليها بصماته التي لا تخطئها العين مثل الندوب التي تذكر بالألم وفي نفس الوقت ترمز إلى شرف خوض المعركة. وهذه لا تحتاج إلى نياشين لتحملها على الصدور وإنما إلى ذاكرة لتحميها عبر العصور والأزمنة.
* مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر أصحابها، ولا تُعبّر بالضرورة عن رأي “هنا صوتك”.
علي انوزلا