أعلنت الحكومة بلسان رئيسها منذ أيام فشل الانقلاب عليها. لم يكترث أحد من المواطنين لذلك. الحكومة ليست مهمة في حياة اللبنانيين. لا تتخذ قراراً إلا وتعود عنه. عندما يعدد الوزراء انجازاتهم يركزون على المؤتمرات الدولية التي حضروها، أو على عدد مشاريع القوانين التي قدموها. يعتبرون أنفسهم نقيض الفساد وكأنهم يعتبرون الانجازات الجدية مرتبطة بالفساد.
المشترك في هذه الحكومة أن وزراءها يعتبرون الثلاثين سنة الماضية هي مرحلة الفساد. وهي ما تزال برجالها والمؤسسات الموروثة منها تعيق عمل الحكومة. لولا التاريخ، تاريخ الثلاثين سنة الماضية، ولولا المعارضة، ولولا الفساد، ولولا إعاقات الحجارة والدواليب في الطريق لكانت الحكومة أنجزت ما لم ينجزه غيرها في التاريخ. طبعاً، تتجاهل الحكومة ومن ينطقون باسمها أن من تمثلهم من الأحزاب كانوا في السلطة خلال العقود الماضية وأن الوزراء الداعمين للحكومة كانوا مسؤولين عن أهم الوزارات خلال الفترة الماضية. لم يكونوا شركاء في حكومات الوحدة الوطنية المتعاقبة وحسب، بل كانوا في الوزارات الأهم. اختاروا الانهيار على الانجاز.
لا شك بالنيات لدى الحكومة ووزرائها. لكن الطريق الى جهنم مزروع بالنوايا الطيبة. نفترض النوايا الطيبة عند هذه الحكومة لاعتقادنا أنها لا تمتلك شيء سوى النوايا. تتحدث عن الإصلاح وهي أصدرت خططاً مالية-اقتصادية غير مفهومة، ولا يستطيع أي منا المراهنة على أن وزراء الحكومة بما فيهم رئيسها قد قرأوها، وأنهم لو قرأوها سوف يفهمونها. خطط مكتوبة بلغة أجنبية، وهي مترجمة للعربية، وهناك فرق كبير بين الترجمة والنسخة الانجليزية. كأن الحكومة لا تفهم ولا تريد الناس أن يفهموا. التعمية دليلها. لدى اللبنانيين إمكانيات بشرية هائلة لكن الحكومة مليئة بمن هم نكرات على صعيد المعرفة وعلى صعيد الانجاز. حتى الوزراء الذين كانوا يتمتعون ببعض الفهم أو كثيره قبل توزيرهم فقدوا هذه الملكة بعد توزيرهم. يبدو أن هناك من يهمس في أذنهم أو يملي عليهم أن يصيروا أغبياء وأن لا يتكلموا إلا بإذن وأن لا ينجزوا إلا بإذن. وكأن الانجاز ممنوع. حكومة متراصة البنيان. هي مع رئيسها على السراء والضراء. القرارات التي أخذوها بالأمس يغيرونها أو يتخلوا عنها في اليوم التالي بقرار من الذين بيدهم السلطة الحقيقية. احزاب السلطة تقرر والوزراء واجهة، ورئيس الحكومة ببغاء أهل السلطة. يتراجع يومياً عن قرارات الحكومة، مدعوماً بوزرائه، ويهرب معلنا الحرب على الفساد؛ كأن الحرب على الفساد لم تعلن منذ زمن. وكأن الفساد ما ازداد تفشيه بعد إعلان الحرب على الفساد قبل تسلم المواقع الأعلى لرئاسة الحكومة ووزاراتها. مثلاُ، هم يطالبون بملاحقة المخربين في طرابلس وبيروت ووضعهم في السجن. فكأن المسألة ليست قراراً يتخذونه هم. إلا إذا كانوا يطالبون الشعب بالقيام بهذا الأمر، علماً بأن قيام المواطنين بالقبض على بعضهم البعض يزيد الفوضى ويسرّع الانهيار الحاصل.
كان أجدر بهذه الحكومة منذ التأليف أن تعلن بيانا وزاريا من كلمات ثلاث: الكهرباء، الماء، والنفايات، بدلاً عن ثلاثية الشعب والجيش والمقاومة. الكهرباء الآن مخصصة عن طريق مولدات الأحياء العاملة بشكل غير شرعي. التزويد بالماء مخصص عن طريق الكميونات التي تشحن المياه الى أبنية العاصمة، وغير العاصمة، بشكل غير شرعي أيضاً. أما النفايات الصلبة فهي مخصصة أيضاً منذ زمن بعيد لكنها انتقلت من مقاول الى آخر.
الفضيحة الكبرى أن الحكومة ذهبت للتفاوض مع صندوق النقد الدولي دون أن تحدد ماذا تريد. تستطيع أن تحدد عندما يكون لديها حسابات موحدة. تناقض الأرقام بين المصرف المركزي ووزارة المال وجمعية المصارف ينم عن استهتار بشأن الدولة وموجوداتها. أبسط الموجودات هي الأرقام، أرقام الموازنة والدين العام، والعلاقة مع المصارف، أي ما لدى المصارف من المال وما لديها من ديون على الدولة، وما لدى المصرف المركزي من دين على الدولة، وما لدى الدولة من ديون وموجودات مالية لاستيراد المواد الغذائية وغيرها من الضروريات للعيش. جلسوا أمام صندوق النقد الدولي وكل فريق لديه أرقامه عن مالية الدولة، حتى أجبروا وفد الصندووق على القول لهم: إذهبوا الى منازلكم، حضروا فروضكم كما يفعل طلاب المدارس الصغار، وارجعوا الينا بأرقام موحدة. غريبة أمر حكومة لا تعرف، أو لا تريد أن تعرف شيئاً عن المحاسبة ومسك الدفاتر. الأمر سهل لكن التعمية ضرورية كي لا يفهم الناس ماذا يحدث في أروقة الحكم.
الفضيحة الأكبر هي أن الواحد من اللبنانيين إذا ذهب الى المصرف ليسحب مالاً لتيسير حياته اليومية. يكون ممنوعاً عليه أن يسحب ما يريد من ماله، أو يعطى القليل منه، من الدولارات التي لا يعرف مقابلها بالليرة؛ دولار ال1500 ليرة أو دولار ال3000 ليرة أو دولار الصرافين الذي يبلغ 5000 ليرة أو 6000 ليرة أو أكثر أو أقل. المهم أن المواطن اللبناني أصبح لا يعرف ماذا لديه في المصرف، ليس لأنه لا يعرف موجوداته في المصرف، بل لأن المصارف بإشراف الحكومة لا تريده أن يعرف. السوق السوداء للدولار هم يمدونها بالدولارات. يصعب، بل يستحيل الحصول على العملة الصعبة إلا عن طريق الصرافين وكلاء المصارف والحكومة والمصرف المركزي. هجوم مع فن التعمية، لعبة على المكشوف لسرقة أموال اللبنانيين؛ ايداعات الطبقة الوسطى بعد أن هرّب قروش البحر دولاراتهم الى الخارج، قبل أزمة الدولار المفتعلة. دعونا من الفساد؛ التعمية للتغطية على الفساد هو برنامج العمل الوحيد لدى هذه الحكومة. هذه التعمية هي الفساد الأكبر، مع حفظ الألقاب لأشكال الفساد الأخرى.
حكومة دون كيشوتية. لو قيض لسرفانتس أن يعيش مرة أخرى ويكتب عن طواحين الهواء لكتب عن هذه الحكومة وعن طواحين الفساد. ناب عنه رئيس الحكومة أمس بإعلان الحرب على الفساد. هي حرب دائمة لم نر، على مر السنين، واحداً من المرتكبين يحاكم. أم أن محاربة الفساد لدى أحزاب السلطة هي للتعمية أولاً، وللتغطية ثانياً على فساد ما بعده فساد، حين جعلوا الدولة ومرافقها من كهرباء الى ماء، وغيرهما، بيد جماعات غير شرعية. ثم شرعنوا اللاشرعية بأن حدد وزير سابق أسعار كهرباء مولدات الأحياء والقرى. شرعنة اللاشرعية بغض النظر عن القانون هو أسلوب عمل هذه الحكومة. وهل أنكى من أن نشتري الدولار من الصرافين الذين يمولهم بها المصرف المركزي بإيعاز من الحكومة، ولا نستطيع سحب بعض ايداعاتنا من المصارف؟ صار الصرافون هم الوسطاء بيننا وبين الحكومة والمصارف والمصرف المركزي؟ وذلك بعد أن سجنوا بعضهم منذ أيام.
الدولة لا تكون شرعية أو لاشرعية. الشرعية تستمد من الدولة. الدولة هي إرادة العيش سوية. هي مصدر كل شرعية؟ هي بالأحرى الشرعية الوحيدة. يستمد نظام السلطة الشرعية من الدولة؛ من الدولة بكونها جميع المواطنين وإقرارهم بأنهم جميعهم يشكلون الدولة، وإقرارهم أن الدولة “هم” وأن “هم” هي الدولة. الدولة اكتسبت شرعيتها منذ أن نشأت، وإلا لا دولة. النظام يكتسب شرعيته من الدولة، من استيعاب الدولة له، ومن استيعابه للدولة. الأساس في كل ذلك أن الدولة إجماع الأفراد فيها على أبديتها واختراع أزليتها. النظام (السلطة وبيروقراطيتها) شرعيتها مؤقته. هي شرعية بمقدار ما تتقيّد بضرورات الدولة. تكسب السلطة (النظام) شرعيتها من الدولة. هذه بما أنها اطار ناظم للمجتمع هي التي تمنح النظام شرعيته. تستمد الدولة شرعيتها من ذاتها. يستمد النظام (السلطة التنفيذية، والحكومة، ومجلس النواب، والقضاء، والأجهزة الأمنية، والأجهزة البيروقراطية) الشرعية من الدولة لا من ذاته. الدولة هي ذلك المجرد المطلق الذي تنبثق منه كل شرعية. الدولة لا تستمد شرعيتها من قوة تتمتّع بها ولا من عدالة تنصف بها؛ الدولة هي القوة والعدالة؛ هي مبدأ القوة والعدالة. هي المبتدأ والسلطة، هي الخبر بمقدار ما يستمد هذا كينونته من الدولة. الدولة هي اللاشيء. هي المعنى الذي يعطي للأشياء معناها. الفرق بين الحداثة وما قبلها هو هذا الفصل بين الدولة والنظام. من قبل كان النظام في التاريخ السحيق هو الدولة. مع الحداثة، الدولة شيء والنظام شيء آخر. مع الحداثة انتظم الجمهور في الدولة ولم ينتظم في النظام. أعطى الدولة شرعية لم تكن لها، وحرم النظام شرعية؛ طلب منه أن يستمدها من الدولة، على أساس أن الدولة جمهور مواطنين، جمهور شعب. لا يصير الشعب جمهور مواطنين إلا بالمشاركة. المشاركة هي اندماج في المجال العام في الساحة العامة حيث يكون النقاش حراً، وحيث يكون الناس مواطنين، وحيث يكون المواطنين كذلك بحريتهم، ويعبر كل منهم عما في ضميره، وحيث يكون الجمهور، جمهور الدولة، هو هذا الضمير الجماعي. الدولة بند واحد هو الضمير الجماعي. مهمة النظام أن يحوّل هذا الضمير الى العيش سوية والى التعدد في الآراء والى استيعاب المصالح المتناقضة والى التسويات فيما بينها، وكل ذلك في اطار واحد ناظم لها هو الدولة.
الدولة في لبنان موجودة عند الجمهور. الجمهور حين يتحدث عن الدولة فإنما يتحدث عن “نحن”. البورجوازية حين تتحدث عن الدولة فإنها تتحدث عن “هم” البورجوازية وضعت نفسها في الأساس خارج الدولة، وبقيت في النظام لأن الدولة تفرض عليها الانتظام في المجتمع، والنظام (السلطة) تمنحها فرصة سرقة ونهب المجتمع كأي قوة خارجية مستعمرة. البورجوازية أسست الدولة ثم خانتها. خيانة البورجوازية للدولة هي أساس الفساد، وتستحق العقاب على ذلك. خيانة النظام (سلطة الحكم) للدولة كانت عندما أمم الجمهور مفهوم وواقع الدولة. ليس هناك دولة لهم. هناك دولة لنا، والنزاع هو حول النظام. حول الصراع على السلطة. يصعب على البورجوازية أن تقر أن الدولة خرجت من بين أيديها. تريد تطويعها عن طريق السيطرة على النظام. وهي لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا عن طريق التعمية والفاشية. التعمية هي أن لا يفهم ما يحدث، ويدفعون الضرائب لمن يستغلهم. والفاشية هي إيهام الناس أن النظام هو دولتهم. الإطباق على من يعادي النظام (يهين هذا الرئيس أو ذاك) ويُعتبر بموجب القانون إهانة لرموز الدولة. لذلك يحتل القضاء وضعاً مركزياً. مطلوب منه أن ينحاز للنظام (للسلطة) بينما هو في الأساس ناطق باسم الدولة (باسم الشعب). من الشعب تتألف الدولة. الدولة هي الناس، لا غير ذلك. النظام هو البورجوازية في تسلطها وهيمنتها وطائفيتها وانحيازها الى طبقة ضد باقي الطبقات. الدولة توحّد، النظام يفرّق. لذلك وجبت السياسة، التسويات التي تمنع أن لا يفجّر النظام الدولة، أن لا تفجّر حكومة الهيراركية والتراتبية والاستغلال اجماع الشعب في اطار الدولة. نعم هناك إجماع لدى الشعب. يتحقق نهائياً عندما توضع البورجوازية خارجه أو تلغي نفسها. يصعب على البورجوازية أن تلغي نفسها، بل يستحيل ذلك، لذلك فهي تجر المجتمع من حرب أهلية الى أخرى.
الانقلاب، سواء حدث أو كاد أن يحدث، هو في اطار السلطة أو النظام. ليس مهما الانقلاب على النظام؛ هو انقلاب في اطار الصراع على السلطة. المهم والذي يبعث على الهم هو الانقلاب على الدولة، هو عدم الاعتراف بما مضى ورفض التراكم على ما سبق، والرغبة في الانطلاق من جديد، سواء عن طريق جمعية تأسيسية في سبيل دستور جديد، أو جمعية تأسيسية تتجاوز التوازنات الفعلية في النظام. الخطر هو عندما يصبح النظام نقيض الدولة، وهو يكاد يصبح كذلك. ينضوي النظام في اطار الدولة عندما يتبنى التسويات ويعتبر تراكم التسويات هو أساس الدولة. الخطورة كل الخطورة هي في تبني منطق من يقول أن علينا في كل مرحلة أو في كل عهد أن نبدأ من جديد؛ أن نرفض التسويات وتراكمها ونزعم بكل دونكيشوتية أن فريقاً منا هو المخلص وهو قد جاء على حصان أبيض كي يلغي الفساد وتبدأ الدنيا من جديد. اسكاتولوجيا (قيام الساعة) والبدء من جديد في عهد تسوء فيه العدالة بعد عصور مظلمة انعدم فيها العدل وساد فيها الظلم. معاداة الإصلاح الى أن يبزغ فجر النظام الجديد.
لا تقرر أحزاب السلطة القيامة. الله يقرر حين تقوم الساعة. الانقلاب على الحكومة ليس ما يشغل البال. أو هو لا يستحق انشغال البال. قيام الساعة قبل أوانه هو ما يشغل البال. هو الانقلاب على الدولة من أجل شيء آخر لا نعرفه ولا يعرفه المنقلبون.
المهدوية موجودة في كل دين ومذهب. هي انتظار من يخلصنا من الظلم دفعة واحدة. السياسة شيء آخر. هي تراكمات الانجازات والتسويات والتدرّج نحو الأفضل. لا خلاصية في السياسة. دون كيشوتية محاربة الفساد ليست من السياسة. للأسف تتأرجح هذه الحكومة بين الدون كيشوتية والعجز. منطقهم أن العجز عن القرار، مهما كان ومهما دام، فإنه ستكون هناك مرحلة يعم فيها العدل (والانجاز؟)، شرط أن لا يقف في طريقهم المعرقلون. الخلط بين المهدوية والسياسة هو تعبير عن عجز عن الفعل. صحيح أن رئيس الحكومة يتصرّف بروتوكولياً كرئيس حكومة، لكنه بالفعل تابع لأحد الأطراف، ويتلقى تعليماته منه، ويضطر الى أن يغيّر قراراته تبعاً لذلك. لا يخرج بقرار إلا وتتوقّع منه تغييراً ما بعد أن يهمس احدهم في أذنه. هو يطالب بالقبض على الذين خرّبوا الأبنية في طرابلس وبيروت في حين أنه يرأس السلطة التي ترأس الجهاز الأمني الذي يفترض أن يفعل ذلك. يصير قراره قرار الحكومة أو لا يصير حسب من يهمس في أذنه. في كثير من الأحيان يطالب باتخاذ قرارات وكأنه واحد من المعارضات. لا ندري إذا كان مصدقاً لوجوده على رأس الحكومة، لكنه يمارس دوره بكل جدية. هكذا نلحظ من هدوئه وابتسامة أبي الهول وتصفيف شعره، الذي يحرص على هندسته. تحتاج رئاسة الحكومة الى أسلوب خاص يميّز وجوده فيها. أهم ما فيها أنه ليس مهماً. بانتظار المهدي مع الأحزاب الداعمة له عليه أن يكون كامل الهيئة. تستطيع أن تتهمه بالوقار لكن الأناقة ليست من نقاط قوته. ليس معتاداً على الأناقة ولا على المظهر الحسن. الإناء ينضح بما فيه.
بعد أن صرنا نأخذ الكهرباء من مولدات الحي، ونأخذ الماء من صهاريج يمتلكها أفراد أيضاً، قُطِعت الصلة مع المصارف وصرنا نأخذ الدولار، أو بعضاً منه، من الصرافين. سلطة تخلت بالكامل عن صلاحيتها وتعجز بالكامل عن تأدية مهماتها. تعجز عن القرار، وإذا أخذت قرارا تغيره في اليوم التالي بطلب من أولياء الأمر.
أمر طبيعي حين يتكلم أولياء الأمر عن الاتجاه شرقا بدل الاتجاه غربا، أي أن ننتقل خيارا من امبريالية الى أخرى. نادرا ما تحدث أحد عن الاتجاه داخلياً والاعتماد على سواعد ومؤهلات اللبنانيين.