يصدّر لبنان الى البلدان العربية ويستورد منها. الى جانب تصدير واستيراد المواد المنتجة، يستورد لبنان ويصدر النماذج السياسية والفكرية. لا أدلّ على ذلك من تصدير الطائفية واستيراد الاستبداد. يصدّر الطائفية مع رتوش معلبة لتنسجم مع الوضع المطلوب هناك، ويستورد الاستبداد معدلاً ليتناسب مع الطائفية السياسية المتفشية والتي تزداد وتتعمّق.
يبدو غريباً أن تجد بعض البلدان العربية في لبنان نموذجاً يحتذى. كان اللبنانيون قد غذّوا الأوهام في عقولهم ونفوسهم وصوروا أنفسهم على غير ما هم عليه، وأطلقوا تعبير “الأعجوبة” على نظامهم الاجتماعي ـ الاقتصادي. صاروا بنظر أنفسهم منارة مشعّة. بلد الاشعاع والنور، وأهل البلدان المجاورة رأوا فيه ذلك بسبب ما أصابهم على يد الاستبداد الذي لا يرحم أحداً، حتى أهل بيت الزعيم. في الاستبداد سلطة “الزعيم” مطلقة، ومن يمسّ بها أو يحاول ذلك يلاقي مصيراً بائساً، يصل حتى الموت اغتيالاً ولو كان من أقرب المقربين.
من ينظر من الخارج يرى سلماً أهلياً، واعماراً، وحريات، وحرباً أهلية تجاوزها اللبنانيون منذ حوالي 30 عاماً. لا يرى حقيقة الأمر وراء كل ذلك. السلم الأهلي يخفي حرباً أهلية بين الطوائف من دون استخدام السلاح؛ الاعمار لم يكتمل، وما اكتمل منه يتم تخريبه؛ الحريات ليست تعبيراً عن الديمقراطية والسياسة والحوار، بل هي حصيلة عجز السلطة عن القمع، الذي تحاول ممارسته وتفشل أحياناً؛ السلم الأهلي مهدد في كل لحظة؛ يبقى لبنان جنة بالنسبة لغيره بسبب عجز الدولة لا قوتها. وما تسمية الدولة القوية سوى مجاز. قوة الدولة لا تكون في السلطة، أو عنجهية القيمين على السلطة. قوة الدولة تكون في مجتمعها المتماسك المنتج المستعد للدفاع عن نفسه. وكل دولة صغيرة أو كبيرة تستطيع أن تدافع عن نفسها مهما بلغ المعتدي من قوة، وسواء كان دولة عظمى أو كبرى عالمياً أو محلياً. لا يفهم السياسيون عندنا أن قوة البلد وقوة الجمهورية هي في اندماجها وفي انغراس الدولة في ضمير كل واحد منهم. لذلك، وبسبب جهلهم أو تآمرهم، يمعنون في الانقسامات وبث خطاب الكراهية. حتى ليكاد البلد يكون على شفير الهاوية في كل يوم وفي كل لحظة. التناتش هو الأساس في السياسة اللبنانية. كل مكسب للغير يعتبر خسارة للطائفة. تكون النتيجة صفراً للجميع. لذلك نرى البنى التحتية، وما أنجز منها، يتهاوى من دون صيانة تذكر. وما أمّم منها يصير تحت إدارة شركات خاصة، وكأننا لانملك القدرة على الإدارة، وهناك الكثيرون من اللبنانيين الذين لديهم الكفاءة. لا نخرب البنى التحتية وحسب بل نفعل الشيء نفسه بالنسبة للتربية والإعلام، وقد كانا من أعمدة النظام المضيئة. لا نعرف في الدنيا بلداً كلبنان تتلذذ طوائفه في تدميره من دون حرب أهلية يستخدم فيها السلاح.
إدا كانت هذه هي الطائفية الذي يراد تصديرها الى بلدان عربية مجاورة فبئس المصير.
نستورد استبداداً بصورة معولمة. يعبّر عن ذلك كثرة الأجهزة الأمنية وطغيانها. المسؤولون الأمنيون من الجيش والأمن العام وقوى الأمن الداخلي والأجهزة الأخرى، وهي كثيرة، يقررون السياسة في لبنان، بدلاً من أن تكون خاضعة لسياسات الحكام الذين يُفترض بهم أن يرسموا الاستراتيجية الديبلوماسية والعسكرية. في لبنان دستور يُطبق بالمقلوب، إذا طُبّق: تسوية الطائف التي تبدو كلباس ضيق يريد الجميع الخروج منها. لبنان معقّد وهذا صحيح، لكن أن يعتبر بعض، أو معظم، الساسة في لبنان أن هذه التركيبة أو تلك التسوية الكبرى يمكن التحايل عليها بالمناورات والتواطوءات، فهذا أمر مريب وخطير جداً. هناك دستور للديمومة لا كي يغيّر قواعده حاكم، أو حكام جدد، كلما رأوا أن ذلك يتناسب مع اقتطاع مزيد من السلطة والتسلط.
كان لبنان قبل الحرب الأهلية، التي بدأت في العام 1975، بلداً طائفياً وكانت الطائفية ملحقة بالسياسة؛ وكان في السلطة ولاء ومعارضة. لم تكن هناك حكومات وحدة وطنية إلا في النادر. كان مجلس النواب للرقابة والتشريع والحكومة للعمل والانجاز. إذا بنا نرى الحكومة للتمثيل وكأنها مجلس نيابي. لا نفهم لماذا يجب على الحكومة أن تحوي مقاعد لجميع الأطراف، وأن يكون لكل منهم حق الفيتو. وهل حق الفيتو لطائفة سوى سندان للهدم، وإلغاء للسياسة. ولا نفهم ما معنى أن تكون بعض الأعمال ميثاقية: تخرج طائفة من قرار ما، فيصير القرار غير ميثاقي، أي يهدد الوحدة الوطنية؟ نفهم كثيراً، وما لا نحب أن نفهمه هو أكثر بكثير. نتصنّع الكثير من الجهل كي نستطيع تحمّل الحياة بعجرها وبجرها، وما أكثر عجرها.
ما نستورده من أشقائنا العرب هو سلطان غير متوّج، وغير مولج بزعامة البلد. يضع كل السياسيين جانباً ويستولي على حق الفيتو مستمداً من حكم القرابة والنسب. نشهد رؤساء أصبحوا كالموظفين عند الملك غير المتوّج. نشهد العشوائية بكل ملامحها. العشوائية صفة كل نظام استبدادي. في الاستبداد المعروف يأتي الزعيم بانقلاب عسكري. عندنا أتى بانقلاب “سياسي” انتخابي مدعوم بالقضاء وما تيسر من الأجهزة. تفلتت البيروقراطية من عقالها، حريتها في العمل هي انقضاض النظام المشلّع.
يستورد اللبنانيون نموذج الاستبداد (معدلاً بالطبع). لا بدّ من التساؤل: هل الطائفية والاستبداد مختلفان، وما مدى الاختلاف بينهما؟ هل الطائفية أم الاستبداد أكثر تجذراً في مجتمعاتنا؟ وهل هما مجرد ظواهر خارجية لهذه المجتمعات، أم أن لكل منهما جذوره العميقة؟ وأسئلة أخرى كثيرة.
يعبّر الاستبداد كما الطائفية عن غياب معنى الدولة في المجتمع وخاصة لدى الطبقات العليا. هؤلاء يجدون مصلحة لهم في كل من الاستبداد والطائفية. يستطيع أي زعيم طائفي أو طاغية حاكم أن يكمّ الأفواه وأن يبني له قاعدة اجتماعية من دون أن يفعل لها شيئاً. كل ما يحتاجه هو القول إن وجوده ضروري لحماية جماعته. ادعاء أن الجماعة تتعرّض لخطر الآخرين في الداخل أو الخارج أو كليهما يجعل الحاجة ضرورية للحماية من دون أي شيء آخر. طغيان الزعيم الطائفي والديكتاتور الحاكم ضرورة وجودية. لا يستقيم وجود الجماعة من دون هذا الزعيم أو ذاك. الفرق أنه في الطائفية ربما تعددت الزعامات بينما النظام (الدولة) لا يتحمل أكثر من طاغية واحد. زعيم الطائفة ينشأ من داخلها أو خارجها. الطاغية يأتي دائماً من خارج المجتمع. ربما جيّر زعيم الطائفة العلاقة بالخارج لمصلحة الطائفة؛ وهذا غالباً ما يكون لغير صالح الدولة. يربط الطاغية الدولة بالخارج. وهو لا يستطيع الاستمرار من دون الاعتماد على الخارج، ذلك أنه مهما فعل لا يستطيع استمداد الشعبية، وبالتالي الشرعية، من مجتمعه. يجتمعان على العشوائية وعدم الاكتراث للقوانين واللعب بالدساتير. وجودهما يغيّب معنى الدولة. لا تستقيم الدولة من دون القانون والدستور لانتظام المجتمع. زعيم المجتمع لا يهمه إلا انتظام طائفته على حساب المجتمع. يعتبر ديمومته مرهونة بغياب الدولة وفوضى المجتمع.
نصدّر إليهم سلعة لا قيمة استعمال لها عندهم. الطائفة تشكل الزعيم، فتظهره. الطاغية يشكّل الطائفة ويجعلها فوق المجتمع. كلاهما لا يحتاج الى المجتمع إلا من أجل التبعية ودفع الضرائب لإعالة الزعيم أو الطاغية. لكن أيا منهما إذا وضع أمام خيار وحدة المجتمع ووجوده أو وجود الزعيم أو الطاغية، يكون لديه الخيار الثاني. الطائفة أداة للزعيم كما الشعب أداة للطاغية. كل منهما على استعداد لخيانة أتباعه ومجتمعه في أية لحظة يتهدد فيها وجوده. زعامة الطائفة متجذرة بحكم الأقدمية ومرور الزمن. معظم الطغاة حديثو العهد، وجاؤوا بانقلابات عسكرية؛ لذلك يحتاج كل منهم الى طائفة ما. إذا لم تكن موجودة تاريخياً فإنه يسعى لتكوين واحدة. ولذلك فما ان يستوي وضع الطاغية في السلطة فإن الطائفية تستشري وتنتشر بسعي من السلطة وأجهزتها.
كل منهما يلغي السياسة. هذه لا تحتاج الى زعيم. تحتاج الى حوار وتوسعة المجال العام. ربما أنتجت قائداً. لكن القائد غير الزعيم أو الطاغية. وجود القائد مرهون برضى المجتمع واشتراكه في تقرير المسار والمصير. الزعيم الطائفي أو الطاغية لا يحتاج إلا الى التبعية. كونوا معي، سيروا ورائي، وأنا أحميكم من الخطر الداهم. الخوف الدائم من الغير طريق أكيد للفاشية، أي إعلاء شأن الجماعة التابعة على كل اعتبار يخص الدولة أو الوطن.
في بلد الطائفية وفي بلد الاستبداد العسكري مشتركات كثيرة أهمها إلغاء السياسة وعشوائية الزعيم أو الطاغية. العشوائية هي عدم الانتظام في دولة. يحكم رئيس أو زعيم بحسب ما يحلو له من دون استناد الى دستور وقوانين. تتناقض أحكامه بين حادثة وأخرى. الأكثر من ذلك كل منهما يملك أدوات القمع: الاستبداد بالسجن والتعذيب؛ والطائفية بالإبعاد والحرم الاجتماعي. وعلى كل حال هناك أشياء تتعلّق بالعائلة، وحتى بالملكية الخاصة لا تستطيع أن تمارسها إلا عبر الطائفة. حتى الانتخاب يكون عبر الطائفة.
ليس لبنان “المنارة” هو ما يشدّ بقية البلدان العربية الى الأمام، بل هي التي تشدّه الى الوراء. نضيف الاستبداد الى طائفيتنا، ويضيفون الطائفية الى استبدادهم.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق