مع غياب غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير سيشعر اللبنانيون جميعاً، من يختلف مع طروحات غبطته، او من يتفق معها من دون نقاش، انهم قد خسروا مرجعية سياسية مؤثرة، فضلاً عن موقعه الكهنوتي البارز واحتلاله الدور القيادي المميز، بل الاستثنائي، في مختلف العهود التي واكبها واثر في قراراتها، فضلاً عن دوره البارز في العلاقات بين الطوائف والذي اكتسب اهمية استثنائية جعلته “قطباً” لا يمكن تجاوزه، سلباً وايجاباً.
لقد جعل من بكركي “مرجعية وطنية” في بلاد ترتكز السياسة المصنعة في العهد الاستعماري عليها، فيكون لها رأيها المؤثر ليس في ما يخص شؤون الطائفة المارونية، او حتى المسيحيين وحدهم، بل اللبنانيين جميعاً، بحياتهم السياسية وعلاقاتهم العربية وحتى الدولية، مستذكراً ربما، تاريخ البطريرك الحويك الذي اسهم مع سلطات الانتداب الفرنسي في رسم خريطة لبنان الحالية، فاشار بضم “الاقضية الاربعة”، كما كانت تسمى آنذاك.
وبالتأكيد فان غبطته قد تميز بحنكته السياسية المبنية على معرفة دقيقة بتاريخ “الكيان” اللبناني والمؤثرات والملابسات التي احاطت باستيلاده “امارة” تابعة ولكنها “مستقلة”، ثم متصرفية ضمن “السلطنة” لكنها خارجها وخارجة عليها، ثم “جمهورية” تجمع إلى “الجبل” محافظات (ولايات) بيروت وطرابلس الشمال والجنوب والبقاع (مع استثناءات تتصل بأصول السكان المهجرين من الجبل بتواطؤ مكشوف مع الفرنسيين (والبريطانيين) في ضوء نتائج الحرب العالمية الاولى، وتوزع الاقطار العربية بين الشريكين المنتصرين، تمهيداً لإقامة الكيان الصهيوني: وهكذا اخترع كيان مفتعل في شرقي الاردن ليكون إمارة للأمير عبدالله ابن الشريف حسين (الهاشمي) مطلق الرصاصة الأولى في حرب انسلاخ العرب عن الامبراطورية العثمانية ومعه قائد جيشه ومستشاره الاثير الجنرال غلوب باشا (ابو حنيك) والجيش البريطاني الذي اوفد إلى المنطقة احد اذكى جواسيسه ليشارك في “الثورة العربية الكبرى” الضابط الشهير لورنس… وهو هو “لورنس العرب”.
وليست مبالغة أن يقال أن البطريرك صفير كان يعرف هذا التاريخ جيداً، وانه كان يدرك مضمون وعد بلفور، 1917، ثم مضمون معاهدة سايكس ـ بيكو، التي وزعت “اسلاب” الحرب العالمية الأولى في الوطن العربي على الحليفين: بريطانيا وفرنسا.. قبل أن تتقدم الولايات المتحدة لتكون الشريك المضارب عبر النفط الذي كانت اكتشافاته في البدايات.
واذا كان البطريرك الحويك قد لعب دوراً مؤثراً في رسم خريطة “الجمهورية اللبنانية” الوليدة بالتواطؤ مع الانتداب الفرنسي، فأضاف “الاقضية الاربعة” إلى “المتصرفية” مستولداً لبنان الجديد ونظامه الفريد.. فان البطريرك صفير قد اعاد تعزيز مكانة الطائفة المارونية بعدما استنزفها رؤساء ضعفاء، في تقديره، او جبناء وهزيلين اضاعوا مكانة الطائفة عبر منصب رئاسة الجمهورية ودورها في الحياة السياسية في لبنان، بوصفه “الحاضن” المعنوي لهذا الكيان.
وليست مبالغة القول أن البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير كان من أبرز الشخصيات السياسية، فضلاً عن مكانته الممتازة والمميزة في طائفته خاصة وبين المسيحيين عموماً، كما في الحياة العامة وعند الطوائف جميعاً.. وهو قد عوض، بشخصه، الغياب المتتابع للقادة الموارنة في السياسة من الرئيس كميل شمعون إلى الشيخ بيار الجميل فإلى بشير الجميل.. لكنه لم يدعم امين الجميل في سعيه إلى تمديد ولايته عبر دمشق… وهي العاصمة العربية المؤثرة على لبنان التي رفض زيارتها حتى برفقة البابا.
رحم الله هذه الشخصية الفذة التي تعاملت معها الدول، كبراها والصغرى، العربية والاجنبية على السواء، على انها “مرجعية وطنية عامة” تملك ـ وحدها ـ حق الفيتو، في الشؤون السياسية بل الوطنية عموماً. لهذا تلقى دعوات عدة، وزار فرنسا والولايات المتحدة الاميركية والفاتيكان طبعاً، وان حرص على استقلالية واضحة عن البابا.
كذلك فان أبرز مواقفه انه رفض زيارة دمشق، ولو عبر مرافقة البابا… خلال جولة في المنطقة شملت سوريا ضمن اقطار أخرى.
وطالما ظل “الكيان” أقوى وأعمق من “الوطن” والطوائف أقوى وأعظم تأثيراً من السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، تؤثر فيها جميعا ولا تتأثر بها، سيظل لرجال الدين موقع الشراكة في قرار الدولة، وحق “الفيتو” على ما لا تقبله، ولو كان صحيحاً وضرورياً وحيوياً جدا لمصلحة الوطن.
رحم الله هذا “البطريرك القائد” الذي يتبدى في مواقفه وكأنه “قُدَّ من صخر”، وعوضنا برجال يصونون مع الوطن وحدة اهله.