تلقى المواطن المشروع الجديد، المنقح والمزيد، لقانون الإثراء غير المشروع بكثير من الدهشة وعدم التصديق، وتراوحت مشاعره بين اعتباره نكتة سمجة في لحظة لا تسمح بالضحك، أو مبادرة لتبرئة ذمة العهد المنتهي غداً، خصوصا وقد تناولت الاتهامات لا سيما في ثلثه الأخير معظم »أركانه« وتعاظمت حملة التشهير فصارت كتبا يتداولها الناس كالخبز،
لم يتوقف مواطن واحد أمام النص أو التعديلات أو الرسالة الرئاسية، أو أمام الجدل الفقهي الذي دار وما يزال دائرا حول آفاق المشروع واستهدافاته والضوابط والنواهي التي تضمنها ومدى التزامها بالدستور والقوانين المرعية الإجراء.
ولعل »الاجماع« الذي تحقق في اللحظة الأخيرة في مجلس الوزراء من حول هذا المشروع المستحيل قد عزز الشبهة بل وأكد عند الناس استحالة التنفيذ، خصوصا وان بين هذا الرهط من الوزراء الذين اعترضوا ثم سحبوا اعتراضاتهم ووافقوا، من حكم عليهم الناس منذ زمن بعيد بأنهم من الفاسدين والمفسدين وممن أثروا ثراء غير مشروع وبارتكاب الحرام في المال العام.
لم يستطع الناس أن يصدقوا ما يسمعون أو أن يتقبّلوا فكرة أن يسهم المتهم بارتكاب الفاحشة بسن قانون لمحاكمة أهل الفحشاء، وبمفعول رجعي… خصوصا وهم كانوا قد تبلغوا من رئيس هذه الحكومة بالذات ما يفيد بأن نصف وزرائها يصح نعتهم »باللصوص«، وبالتالي فإن هذا القانون يطالهم، نظرياً على الأقل!
ثم ان الذاكرة الشعبية تحفظ عددا من القوانين المشابهة كما تحفظ عددا من أسماء ضحايا التنفيذ الرديء للقانون الصحيح، نظريا، والذين تحولوا، من بعد، الى نجوم في الحياة السياسية ومشرعين للقوانين وممثلين للارادة الشعبية: فعدم التسليم بطهارة القاضي وبعدالة القانون يحول القاضي الى جلاد والمجرم الى ضحية يتعاطف معها الناس، حتى لو كانوا ضمنا يشكون في أمانتها وفي استحقاقها لمنصبها… السامي!
فالحاكمون، في نظر الناس، هم في الغالب الأعم، مجموعة من المتواطئين عليهم، حتى وان تبدوا مختلفين سياسيا إلى حد تبادل الاتهامات والتنابذ بالألقاب.
ومع تسليم الناس بأن بين مَن حكموهم أو تولّوا المناصب المفاتيح في السنوات الماضية مَن هو بريء من تهم الاختلاس أو الهدر أو الإفساد أو العبث بالمال العام، إلا أن القاعدة في تقديرهم أن »الكبار« لا يحاسبهم أحد، وأن المحاكمات ذات العناوين الواعدة والباهرة سرعان ما تنتهي بتقديم ضحايا فدية من »الصغار«، لكي يطمئن أولئك »الكبار« فيستمروا في ممارسة إثرائهم غير المشروع واستثمار ناتجه المتعاظم وقد هدأ بالهم،
لم يتعوَّد اللبناني أن يسأله أحد: من أين لك هذا؟!
فإذا ما سُئل فإن الأجوبة عديدة ومتنوعة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: »ربك كريم!! ولو، ألا ترى غيري؟! تغمض عينيك عن القطط السمان ثم تأتي لتحاسبني أنا العاجز عن دفع أقساط أولادي!! مَن حضر السوق باع واشترى! كنت أحرص على القرش الواحد فأسموني »الأهبل«، عندها فتحت عيوني ومددت يدي حتى لا أسقط من عيون زملائي!! الشاطر ما يموت!! دبّرت حالي.. فهمت اللعبة، أخيراً، ومن أسف أنني تأخرت أكثر مما يجب وكان غيري قد قش الزبدة فلم يتبق لي غير الفتات!! كشفتهم فأسكتوني، وثمن الصمت غال…«.
لم يتعوَّد اللبناني أن تجري محاسبة جدية في أي مجال، ولذلك لم يختف أحد من الحياة العامة إلا بالإرادة الإلهية!
كانت »السياسة«، تمنع المحاسبة، خصوصا وهي مفتوحة دائما على رياح السموم الطائفية والمذهبية، وليس سهلاً أن تقدم الى المحاكمة ودفعة واحدة ثمانية عشر متهما ينتمي كل منهم إلى طائفة، وتحكم عليهم هيئة قضائية يتوفر فيها ولها مثل هذا التوازن الطائفي والمذهبي (وربما العرقي… أفيحكم على السرياني، مثلاً، أرمني، أو على »القبطي« ذي الجذور المصرية »شيعي« من جذور عراقية؟!).
وكان التواطؤ العلني أو الضمني بين أعضاء نادي الحكم والنفوذ والجاه والمال يقيم في ما بينهم حلفا مقدسا، فيتكاتفون ويشد بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص..
ومثل هذا التواطؤ سيظل قائما طالما استمرت الحياة السياسية تدور وفق القواعد القديمة ذاتها.
إن الإصلاح يبدأ بالسياسة وينتهي بها،
والسياسة هي المعطِّل الفعلي للقوانين والأحكام وهي المفسِد الحقيقي للحياة العامة.
والأمل أن يباشر هذا العهد، وأن ينجح في المهمة المستحيلة: أي إصلاح الحياة السياسية، بقوانينها جميعا ومرتكزاتها الاقتصادية والاجتماعية والإدارية،
وبعد ذلك، وليس قبله، يمكن محاسبة الذين رمونا بدائهم وانسلوا!