في أجواء عاصفة، يقترب العالم من موسم الحقيقة، وأقصد الفترة التي تسبق وتشهد انتخابات الرئاسة الأمريكية وتعيش نتائجها. نحن الآن في الأيام التي تسبق الانتخابات، أيام جرت العادة أن يستعد فيها المرشحان بالمال الوفير والناخبين والإعلانات لتحقيق الفوز. قراءتي للأحداث في أمريكا وخارجها تجعلني أعتقد أن المرشحين لن يستعدا للانتخابات هذه المرة كما جرت العادة. الأجواء ليست كالمعتادة. الخارج ليس هو الخارج الذي جرت في وجوده الانتخابات السابقة والأسبق، ولا الداخل هو الداخل. صحيح أنهما لم يتكررا حرفياً في كل انتخابات ولكني أثق تماماً في أن الأجواء الراهنة في الخارج والداخل معاً تُنذر بتقلبات شديدة. هذه التقلبات قد تكون من القوة بحيث تجعل من هذه الانتخابات تحديداً “مسألة تاريخية” وتجعل من نتائجها، أو عواقبها، مصدراً لتغيرات غير عادية في العالم وبخاصة في أمريكا.
لم أغير رأيي في الرئيس دونالد ترامب، وعلى كل حال لم يحدث من جانبه ما يجعلني أغير رأيي. ما أزال عند موقفي من أنه لن يعترف بأي نتيجة تمنعه من تولي الرئاسة لولاية ثانية. وبالفعل، أظن أنني فهمت أن الأمر انتقل منه إلى مساعديه الذين راحوا يعبّرون عن هذه النية برسائل متعددة وبعضها مغلف بالقانون. إلا أن جديداً جاء يفرض نفسه. أعدت قراءة أحداث العقود الأخيرة وتأكد حدسي. ترامب ظلم نفسه. جعلنا لا نفكر إلا فيه ودفعنا دفعاً نحو تحميله جانباً كبيراً من مسئولية كان يجب أن تتحملها الولايات المتحدة عبر أكثر من رئيس.
ترامب غير مسئول عن انحدار أمريكا. هنا يمكن أن أذهب بعيداً مع محللين أقدر كفاءتهم بحثوا ونقبوا في مصادر هذا الانحدار. حسب رأي هؤلاء، كانت زيارة الرئيس ريتشارد نيكسون للرئيس ماو تسي تونج تحت وقع الخسائر الأمريكية في فيتنام إحدى محطات انطلاق الانحدار الأمريكي، وكانت سياسات الوفاق مع الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة المحطة الثانية. كثيرون قرروا أن يكون تفجير سفارتي الولايات المتحدة في تنزانيا وكينيا في 1998 وتفجير برجي روكفللر في نيويورك في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر من عام 2001 المحطة الثالثة. أيامها، دوّت في أنحاء أمريكا صيحتان؛ صيحة نفس منكسرة وغير واثقة وغير مصدقة، وصيحة حرب أن أفيقوا أيها الأمريكيون. فلتنفقوا أكثر على السلاح والقواعد العسكرية ولتشنوا حروباً في كل مكان. حرب عالمية ضد الإرهاب وحروب في أفغانستان والعراق والبوسنة وليبيا وسوريا. أيها الأمريكيون، أنتم تقودون وحدكم ركب البشرية. ها قد انتهى عصر القطبية الثنائية بانفراط الاتحاد السوفييتي ويطل الآن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، عصر القطب الواحد. أنتم أعظم الأمم قاطبة.
قضت استراتيجية عصر القطب الواحد أن تتفوق أمريكا على كل الآخرين في الإنفاق على السلاح فتنتصر عليهم، كما انتصرت في حربها الباردة ضد السوفييت، بدون حرب. راح الظن، ولبعضه أساس علمي، أن الإنفاق على الدفاع كفيل وحده بتنشيط عجلة الإنتاج في الاقتصاد، فتظل أمريكا الأولى عسكرياً واقتصادياً وسياسياً. فات على منظري هذه النظرية رأي آخر له وجاهته. يقول أصحابه أنه ثبت بالدليل أن الإنفاق العسكري أقل الأساليب كفاءة في خلق وظائف جديدة، أقل من الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية وخفض الضرائب والطاقة النظيفة. الواضح أن أمريكا عندما قررت أن تتفوق عسكرياً وتحتفظ بهذا التفوق، كان هدفها تأكيد هيمنتها على العالم وليس الدفاع عن نفسها وإلا لأهتمت بصيانة كافة مكونات قوة الدولة.
أخطأ قادة القطب الواحد ثم تعددت الأخطاء. أهملوا الاهتمام بعناصر القوة الرخوة، المكمل الضروري في منظومة الدولة الحديثة. تجاهلوا دورهم الافتراضي في حماية الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان، حين نادوا بإعادة تشكيل العالم ليصير على شاكلة أمريكا. حدث ما لم يكن في الحسبان. تقلصت الإمكانات وتخلف السياسيون واستمر انحدار أمريكا، فلم تعد النموذج. ركزوا على القوة العسكرية والانتشار الحربي حول العالم، فجاء التركيز على حساب تحديث البنية التحتية للدولة الأمريكية. أنفقت أمريكا على حروب الإرهاب أكثر من 16 تريليون دولار.
في ظل أمريكا القطب الواحد، سقط آلاف الضحايا في عديد الحروب التي شنتها في آسيا وإفريقيا. حروب خرجت أمريكا من معظمها خاسرة، تعطلت بسببها طاقات هامة في الاقتصاد الأمريكي. قيل إن حرباً واحدةً، لعلها الحرب ضد العراق كلّفت الاقتصاد الأمريكي ما يزيد عن ثلاثة تريليون دولار، ونتائجها الآن محل سخرية علماء السياسة والحرب والسلم في كل مكان. كانت ولا تزال وستبقى المثال الفاجر عن فساد السلطة ووحشية الاحتلال والتنكر لقيم الليبرالية وحضارة الغرب. الغريب في الأمر أن أحداً ممن جاؤوا إلى الحكم بعد غزو العراق لم يحاول محو صورة أمريكا المنحدرة أخلاقياً أو حتى تحسينها. في تلك الأجواء، ومن هذه التربة، خرج قادة سياسيون من نوع دونالد رامسفيلد ودونالد ترامب وستيف بانون وجون بولتون يعرضون بضاعة سياسية لا يُقبل عليها أحد. وهكذا يزداد يومياً عدد خصوم أمريكا ويستمر في التناقص عدد حلفائها وأصدقائها. ظاهرة لم يسجل مثلها مؤرخ أرّخ لعلاقات أمريكا الخارجية.
ومع ذلك، يحسب للرئيس ترامب صراحته وفهمه لطبيعة المرحلة. أراه صادقاً في اعتقاده أن دوره في المرحلة الراهنة كرئيس للولايات المتحدة أن يهتم بإبراز عظمتها وليس تعظيم مسئوليتها عن قيادة العالم. “أن تعود أمريكا عظيمة” شعار يعني عودتها قوية ولا يعني بالضرورة عودتها نموذجاً يحتذي أو يقود. كانت العواقب وما تزال خطيرة. نحن، وأقصد العالم، نعيش حالة من الفوضى نادراً ما عشنا مثلها. تعودنا أن نعيش في نظام دولي معروفة معالمه وحدوده. عشنا معظم الوقت في حال انضباط، نصطف في صفوف حلفاء أو خصوم، نحترم تراتيب القيادة الدولية. فجأة ضربت الفوضى ورحنا نتخبط. روسيا تحاول العودة، فنراها تبحث عن فراغ إقليمي لتملأه أو تشارك في ملئه مع دول إقليمية أخرى، أو هي تجد فراغاً كانت تحتله أمريكا فتتفاوض مع الرئيس ترامب على ملئه مشاركة أو بمقابل. الصين غيّرت فجأة خططها التي سبق والتزمت بها تجاه شعبها وأعضاء حزبها والعالم الخارجي. التزمت قبل أربعين عاماً أن تنهض بالتدريج وفي هدوء وتفهمت أمريكا وكل الغرب. فجأة تغيرت الخطط. الرئيس الصيني يلوم أمريكا التي اختارت العودة إلى سياسات الحرب الباردة مع الصين قبل أن تكتمل أسباب نهوضها. الرئيس الأمريكي يلوم الصين التي توقفت عن التزام التدرج في النهوض فراحت تقفز.
العالم يعاني لأن القواعد المؤسسية في العلاقات الدولية التي كانت تنظم عمليات التسوية لم تعد متاحة بنفس القدر أمام الدول المتخاصمة، ولأن المشاركة الأمريكية صارت باهظة التكلفة المادية وبخاصة على دول بسيطة الموارد، ولأن القوى الإقليمية لم يكن مسموحاً لها بدور كبير في تسوية الأزمات في المراحل السابقة، ويجري الآن تنفيذ أكثر من تجربة في الشرق الأوسط بهدف تحميل قوى إقليمية مسئولية تسوية النزاعات الساخنة. لسنا غافلين عن أن بعض هذه التجارب يمكن أن تجرفه الرغبة في أو الحاجة إلى إقامة توازن جديد للقوى داخل الإقليم. السباق على أشده في مواقع بعينها. الميليشيات المحلية تنقلها طائرات قوى عظمى وأحلافها. جيوش المرتزقة جاهزة ومزودة بأحدث الأسلحة وأكفأ القادة. في إفريقيا، تأهب وكذلك في آسيا وفي أمريكا الجنوبية غليان قابل للانفجار، كلها في انتظار انتخابات لها علاقة وثيقة بالدرجة التي انحدرت إليها مكانة الدولة الأعظم.
الناس في عالمنا، وأقصد الإقليم الذي نعيش فيه، وعوالم أخرى في أوروبا وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، يجب أن يستعدوا ببدائل إقليمية ووطنية تتناسب والعواقب المحتملة لنتائج الانتخابات الأمريكية. أخشى أن تفاجئنا العواقب فتكون فوق قدرتنا على احتمالها كلها أو بعضها.