في كل مجتمع تنوّع وتعدّد. في كل جماعة تعدّد وتنوّع. الجماعة طائفة داخل المجتمع. يكون انتماء أعضائها لطائفة معينة، لكن انتماءاتها السياسية لا تتعلّق بالدين أو المذهب اللذين تنتمي إليهما. الدين أو المذهب يشكّلان هوية بالنسبة لأتباعهما. تتناقض الهوية الوطنية مع الهوية الطائفية؛ نادراً ما تتلاءمان. ويتحوّل الانتماء للوطن الى إزدواجية تشلّ الروح الوطنية، وتهدد استمرار استقرار الدولة. الطوائف تشكيلات اجتماعية ـ سياسية. وما هو سياسي فيها يهدد وحدة المجتمع والوطن والدولة. منافسة الطائفة للدولة مرض عضال يعاني منه لبنان. ربما كان هو سبب وجوده.
جرت الانتخابات النيابية منذ أيام، وقد كانت تؤجّل دورة بعد دورة لأسباب أمنية أو خلاف ذلك. جرت الانتخابات من دون أحداث عنف تذكر. المبررات التي كانت تُستخدم للتأجيل لم تكن مقنعة في حينها. ذلك دليل على أن إجراء الانتخابات في وقتها لم يكن أمراً مناسباً للطبقة السياسة ـ المالية المهيمنة. هي أدرى بما يناسبها أو لا يناسبها.
لوحظ في هذه الانتخابات النيابية أن الصراع كان محتدماً داخل كل طائفة. تحطمت تقريباً كل الرؤوس الكبيرة من زعامات وقيادات وأحزاب داخل كل الطوائف، في ما عدا المناطق الشيعية بغالبية قاطنيها (الجنوب، بعلبك الهرمل). هل انّ غياب التنوّع والتعدّد في الجماعة الشيعية شيء طبيعي أم ممنوع؟ وهل يكون هذا الغياب أمرا صحيا يسمح بالتطوّر والتقدم؟ ربما اختلفت التفسيرات حول تعريف التطوّر والتقدم، إلا أن الثبات والامتناع عن التحوّل يشكل خطراً على أصحابه، ويشكل بالتالي خطراً على العلاقات مع الطوائف الأخرى ويهدّد استقرار الدولة.
هل تشكّل الطائفة الشيعية مجتمعاً مغلقاً؟ الأ يؤدي الإغلاق الى إنسداد فكري وثقافي والى نضوب في الروح الإبداعية؟ وقد كانت هذه الطائفة لمدة طويلة أكثر الطوائف رفداً للبنان بالإبداعات الفنية والعلمية. هل توقف كل ذلك أم سوف يتوقف؟ إن إمساك قيادة واحدة (قيادتان تشكلان تكتلاً واحداً) بخوانيق هذه الطائفة ربما يؤدي الى حالة اختناق روحية وإبداعية مهما كانت المكاسب الانتخابية. يذكر التاريخ أثينا مدينة أفلاطون وأرسطو والأكاديمية، ولا يذكر تراث اسبرطة ذات التنظيم العسكري-السياسي، أي ذات المجتمع المغلق. تعاني المجتمعات العربية، والإسلامية عامة، من الانغلاق الثقافي والروحي، وتعاني في الوقت نفسه من التمزقات الداخلية والانعزال عن العالم. هي في مواجهة مع العالم وليست منخرطة فيه.
الانغلاق يؤدي الى إعدام السياسة وما تعنيه من حوار ونقاش. الحوار والنقاش مع الطوائف الأخرى لا يغني عنهما في داخل كل طائفة. من دون السياسة تفقد الطائفة حيويتها السياسية وتتجمّد في قوالب. تتصلّب الآراء فيها وتصاب قواها الإبداعية باليباس.
ربما ليس بالإمكان إلغاء الطائفية، وهذا أمر مستحب، لكن التصلّب في الفكر والروح، وبالتالي في السياسة، هو أمر يشكّل خطراً على أصحابه وعلى الآخرين. لقد سقطت الأحادية في كل الطوائف الأخرى، مما يضخ الأوكسجين في الحالة الوطنية، ويساهم في تطوّر وترسيخ دور الدولة. الدولة هي الملاذ الأوّل والأخير. هي الشرط لما عداها ولا شروط عليها؛ هذا إذا كان المطلوب الحفاظ على الدولة وتعميق مفاهيمها في ضمير كل مواطن. تتطوّر كل طائفة بقدر ما يتحوّل رعاياها (أتباعها) الى مواطنين أفراد؛ عندما تميل الحواجز (الطوائف) بينهم وبين الدولة الى التلاشي. وهناك حالات في طوائف أخرى كادت تهدد بالمصير الى انغلاقها. من حسن الحظ أن ذلك لم يحدث؛ على الأقل لم تظهر نتائج تشير الى ذلك؛ رغم أن قانون الانتخابات، وإن سمي نسبياً، فهو عامل من عوامل انغلاق الطوائف.
على كل حل، انغلاق الطوائف أمر نسبي. ما يظهر عند الشيعة بحده الأقصى هو أمر موجود في الطوائف الأخرى بنسب أقل. انغلاق الطوائف وتمحورها حول نفسها يؤدي الى مشاكل فيما بينها أو داخل كل منها. وقد بدأنا نشهد النوعين من المشاكل، بما قاد الى أعمال العنف المتبادلة، وأدى الى ما يُسمى “نزول الجيش”. هل نريد أن نُحكم عسكرياً، أو أن تُفرض حالة طوارئ؟ الاستبداد الذي جرت ضده ثورة 2011 في أرجاء الوطن العربي كان المطلوب إسقاطه، وكان المطلب الأساسي هو إسقاط حالة الطوارئ التي كانت معتمدة في بلدان عربية، على مدى عقدين من السنين.
يُصنف كل منا في طائفة منذ ولادته. الأمر قسري واجباري. ليس معتاداً الانتقال من طائفة الى أخرى إلا في حالات معدودة. أما أن يتحدث الواحد منا عن الطوائف الأخرى، فهذا من الممنوعات. بالأحرى يُفرض في الاتيكيت (الأداب الطائفية) أن يتكلم كل عن طائفته بالنقد أو التعتيم. النقد الصحيح هو التقييم لا التجريح.
يتمتّع لبنان بمستوى عال من الحريات السياسية. نخاف أن نفقدها إذا وصلنا الى حكم الأجهزة الأمنية. أن تشكّل كل طائفة حالة أجهزة أمنية فذلك يشكّل خطراً على الدولة. ليس فقط الدولة ككيان سياسي. بل الدولة كمفهوم في الضمير الفردي.
لم تحدث هذه الانتخابات إلا لأنها كانت مفروضة. ما يُسمى “المجموعة الدولية” أرادتها. لبنان مقبل على مرحلة تُفرض فيها شروط تقيّد السيادة، أي تقيّد الحريات في لبنان. حريات الدولة والمواطنين. مما سيعيق تطوّر الدولة والمواطنين. المؤتمرات التي عُقدت في الخارج لدعم لبنان لن تكون من دون شروط وأثمان.
لا نواجه ذلك بانغلاق الطوائف، بل بانفتاحها بعضها على بعض كي تستقيم السياسة، وكي يمارس اللبنانيون حرياتهم من دون قيد أو رقيب. في الميثولوجيا اللبنانية، على مدى القرون الماضية، ارتباط بين الامتيازات الأجنبية (تدخل الدول الغربية في الشؤون الداخلية) وبين نشوء الطوائف، أي الانقسامات اللبنانية. الطوائف هي بعض هذه الانقسامات. تستجير الطوائف بالخارج.؛ كل على طريقتها. التبريرات موجودة دائماً، بعضها مؤتمرات الدعم الخارجية، وبعضها التدفق المباشر للمساعدات الى الطوائف، قليل منها يوضع في إطار الدولة. مؤتمرات دولية لدعم لبنان، ما هي نسبة النفاق والتهريج فيها؟ تهريج في الخارج، ونفاق في الداخل.
أهمية هذه الانتخابات أن المجلس الجديد سوف يكون مطلوباً منه الموافقة على صياغة لبنان بإملاءات الخارج. مؤتمرات الخارج الدولية شأن طائفي أيضاً. طوائف تستعين بها. ينعكس الأمر في الداخل. تتوالى الأحداث الأمنية. فهل ندخل في المجهول مرة أخرى؟ وهل المجهول أمراً غير معلوم سلفاً؟
ما ابتليت به طائفة سوف يصيب طوائف أخرى. بدأنا نشهد ذلك تدريجياً. مع تصاعد في أعمال العنف، وانغلاق الطوائف حول محاورها. تتوالد الأحاديات عند الطوائف. كل بمفردها. ما هو الظاهر عند الشيعة مستبطن لدى الطوائف الأخرى بأشكال مختلفة. وسوف يبدو ظاهراً حين اللزوم. وفي ذلك خراب للجميع.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق