طلال سلمان

علامات مبهمة على طريق وعرة

قضيت ساعات ثقيلة مع آخر محاولة من جانبي لفهم وثيقة السيد جاريد كوشنر صهر السيد دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية. وهي وثيقة أتاحت لي ظروفي أن أعرف مقدما من ذوي الخبرة وقد سمحت لهم اتصالاتهم ومراكزهم الاطلاع على أجزاء متفرقة منها في أوقات متفرقة، ثم اطلعوا عليها في شكلها النهائي قبل أن تأتي ناحيتي فاطلع عليها بدوري، أقول إنني عرفت منهم مقدما أنه لا يجب أن أتوقع أن أجد فيها أو بالأحرى أنتظر مجموعة إرشادات تختلف في جوهرها عن الإرشادات المزودة بها طرق كثيرة تقودنا إلى مستقبل مكتوب لنا.


تقترح الوثيقة للقارئ الذكي أن يلاحظ أن إسرائيل تخطت بنجاح، وإن بمشاق وتضحيات، جميع مراحل النشأة، وأثبتت لشعبها والعالم الخارجي، وبخاصة لأقليتين متعصبتين في جموع الناخبين الأمريكيين، إحداهما إنجيلية والثانية يهودية، إنها حققت مظاهر وشروط البلوغ ولا يفصلها عن الاحتفال به سوى مسائل شكلية سوف تجري إزالتها خلال السنوات الأربع القادمة. في ذلك الحين سوف تكتمل للدولة الإسرائيلية جميع مظاهر السيادة، وتبدأ على الفور عملية اللحاق بتيار «التجديد القومي» الذي يجتاح أوروبا، بل والعالم بأسره.
صحيح أن الحكم في إسرائيل كان سباقا حين خضع لأعوام عديدة لهيمنة أحزاب اليمين القومي وأحيانا أحزاب اليمين الديني، حين ظهر على الساحة قبل، أو ملازما، لظهور التيارات اليمينية في فرنسا وهولندا وألمانيا والمملكة المتحدة. بل سبق، وهو المكون الأهم في التطورات الراهنة، تولى دونالد ترامب رئاسة الجمهورية الأمريكية ونشأة الترامبية كتيار قومي أمريكي يدعو، كما يدعو الآن رئيس وزراء بريطانيا، إلى أن يعترف العالم لهما كما لإسرائيل بالاستثنائية في المكانة والسلوك. صار بناء الدولة، أو إعادة بنائها، شعارا ترفعه دول عديدة في الشرق والغرب وتطلب من الآخرين الاعتراف بحقها في أن تتجاوز في التصرفات من أجل هذا الحق «النبيل والمشروع». الروس يرفعون هذا الشعار والهنود والمصريون وأهل الخليج وربما كل العرب والأتراك. كوشنر وخطته لا يعترفان بحق الفلسطينيين في وطن إلا بشروط وفي حين معين يحدده بنفسه فهو أدرى بشعابها من أهلها.


أكتب هذه السطور ومن حولي يصدر عن أدوات الإعلام والاتصال سيل من اتهامات لدول تتعامل مع دول أخرى بأساليب غير نظيفة. الاتهام ليس جديدا والممارسات غير النظيفة في السياسة الدولية كثيرة ومتنوعة، وأظن أنها نشأت مع نشأة أول علاقة بين دولتين. إلا أن دولا كثيرة أدركت مع مرور الزمن أن في العلاقات الدولية يجب أن يكون الاعتماد على الممارسة النظيفة باعتبار أن عائدها أقل خطرا وكلفة من عائد الممارسات غير النظيفة. أسمع الآن أن الصينيين يتهمون الأمريكيين بشن حملة تشوية صورة الصين، بل بشن حملة قذرة تتهم الصين بالتقاعس عن وقف انتشار فيروس الكورونا.
أكثر الدول العربية والفلسطينيين يتهمون أمريكا باستخدام أساليب غير نظيفة ضدهم لأن الحرب التجارية التي شنتها أمريكا على الصين وتشنها على دول أخرى لأسباب متباينة لم تترك مجالا للشك في أن الولايات المتحدة تقدم على ممارسات غير نظيفة مع الدول التي تختلف معها والدول التي تهيمن عليها.
يحق لهؤلاء بأي معيار اصدار هذا الاتهام على ضوء ما قامت به واشنطن مؤخرا في حربها ضد الفلسطينيين. نقلت سفارتها إلى القدس وأعلنتها عاصمة موحدة و«أبدية» لإسرائيل. اعتبرت الجولان أرضا غير محتلة والمستوطنات حقا لإسرائيل، وأوقفت المعونة لوكالة غوث اللاجئين، ثم وبكل بساطة تبنت خطة السيد كوشنر نهائية وغير قابلة للنقاش، وفي الوقت نفسه، قابلة للدرس والتأمل خلال مدة سنوات أربع. مرة أخرى، تتدخل اعتبارات السياسة الداخلية الأمريكية، فالمدة المحددة تنتهي مع اقتراب نهاية ولاية السيد ترامب، علما بأنه لا الدرس ولا أفكار جديدة يمكن أن تغير ما اتخذته واشنطن من قرارات أو ما نصت عليه الخطة. ممارسة غير نظيفة. هكذا بدت للفلسطينيين وبعض العرب.


ليس غريبا على كل حال أن يحذر حكماء من العرب وغير العرب من صعوبة مرحلة «التفاوض» القادمة، وبعضهم ألمح إلى استعداده تحمل هذه المسؤولية على صعوبتها وغموضها. الغريب هو أن تصدر هذه التحذيرات المتفائلة رغم أن السيد كوشنر استبعد إجراء أى مفاوضات في حال لم يلب الفلسطينيون شروطا وصفها بالأساسية وهى إقرار مبادئ حرية الصحافة وإجراء انتخابات حرة وإنشاء مؤسسات مالية خاضعة لمبادئ الشفافية والمصداقية والكفاءة. ولتأكيد عزمه ونيته الحقيقية قال «إذا لم تتوافر هذه الشروط كيف يتوقع منا أن نقنع إسرائيل بتقديم تنازلات».


جلس إلى جانبي شاب من زملائي الصغار في السن. كنا نقرأ الخطة والشروط وننظر بكثير من السخرية المصحوبة بالألم إلى خريطة مرفقة بالخطة، وفجأة انتصب الشاب واقفا وقال «ابني لن يرضى بهكذا خريطة ولا بخطة تفوح من كل جوانبها رائحة ميول ونوايا فوقية يهودية تفرضها على دونية عربية. الأجيال القادمة سوف تسعى لتمزيقها كما حاولتم أنتم أنفسكم وحاول أباؤكم مع خرائط وخطط خلفها الاستعمار الأوروبي.. ثم من قال إن بقية دول الشرق الأوسط سوف تنفذ شروط السيد كوشنر إذا نحن أطعنا ووفقنا ونفذناها».


نعيش مرحلة انقلبت فيها دول من جميع المقاييس والأحجام على القانون الدولي. أمريكا، وهي على كل حال صانعة نظام دولي جديد مارست انقلابات على القانون الدولي، مارستها بكثافة عندما لاح لها أنها تقود العالم منفردة كقطب أوحد عند نهاية القرن الماضي. ولكنها تفوقت على نفسها في المرحلة الترامبية وهي المرحلة التي يمكن أن تخلف تشوهات بارزة في شكل النظام الدولى القادم ومضمونه. لم يختلف اثنان من حكماء القانون الدولي في العالم العربي على أن ما جاء بخطة كوشنر هو اعتداء صارخ على القانون الدولي وعلى المؤسسات الدولية وعلى روحه وفلسفته. ومع ذلك يبدو لي أحيانا أننا نعيش عصرا يكفر بالقانون والأخلاق عموما. كنت أتابع على التلفزيون شهادة أستاذ قانون في واحدة من أهم الجامعات الأمريكية وهو يدافع عن الرئيس ترامب أثناء مناقشة قضية عزله. أفزعنى قول هذا الأستاذ الذي يُدرس الشباب في جامعته أصول القانون إنه يحق للرئيس أن يفعل ويقرر ما يشاء، ضمن سيادة القانون أو خارجه، من أجل أن يفوز بولاية ثانية إذا هو اعتقد أن في وجوده فترة ثانية فائدة لأمريكا. بمعنى آخر لا جريمة ارتكبها سيادته إن هو طلب من رئيس أوكرانيا فتح تحقيق مع ابن منافسه في الانتخابات المقبلة جون بايدن مهددا الرئيس الأوكراني بسحب المعونة العسكرية الأمريكية المقررة لبلاده إن لم يلب رغبته.

هذه النظرة إلى القانون كانت بلا شك في ذهن صانع خطة كوشنر وزميله السيد فريدمان وممولها المليونير الصهيوني. وجدوا أن من حقهم وحدهم أن يعيدوا رسم خرائط في الشرق الأوسط طالما أن الفائدة تعود لإسرائيل وطالما كانت الكلفة السياسية والاقتصادية سوف تتحملها شعوب المنطقة. لاحظنا أن هذه النظرة إلى القانون صارت شائعة في السياسات شرق الأوسطية، والأمثلة كثيرة ليس أقلها شأنا ممارسات الرئيس الطيب أردوغان في سوريا وكردستان وشرق البحر المتوسط وعبر البحر حتى ليبيا. يمارسها أيضا قادة الحكم الإيراني.


الخطة بخرائطها بين يداي أرميها جانبا وأتجاهلها مؤجلا الاهتمام بوقف تنفيذ سيناريو غير مرغوب لمستقبل أمتي وأبنائي وأحفادي من بعدي؟ أم أعود إلى قراءتها مرة ثالثة لعلني أجد في سطورها أو بينها ما يبرر إلحاح الملحين والمؤملين خيرا أن نضع «السلام» كلمة في عنوانها؟. لم أجد ولن أجد. أم أعود فأدعو القادة العرب إلى رفضها كما رفضوا غيرها من قبلها، على أن تخرج من قمتهم القادمة خطة مفصلة مقابلة تعلن النية في وقف التدهور في هذا النظام العربي الهالك حتما إن لم تهب هذه القمة لإنعاشه أو استبداله؟

تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق

Exit mobile version