غزة ـ حلمي موسى
اليوم الثمانون، وعلى الدوام، يحدونا الأمل بقرب تحقيق النصر.
على الرغم من استمرار وحشيتها وبطشها في قطاع غزّة، إلا أن يوم أمس كان يوما أسودَ بالنسبة للإسرائيليين. فقد دُفن 14 ضابطا وجنديا قُتلوا في معارك بريّة شمال قطاع غزة ووسطه وجنوبيه. وصباح اليوم، أُعلن عن مقتل جنديين آخرين.
وقد تكرر خلال الأسابيع الماضية استخدام تعبير “السبت الأسود” والذي بدأ يوم 7 أكتوبر لكنه لم يتوقف عنده. تكررت أيام “السبت الأسود” طوال أيام الحرب الدائرة، وتبعتها أيام سوداء أخرى.
كل يوم يلقى فيه جنود الاحتلال مصرعهم هو يوم أسود. وتزداد قتامة الأيام بقدر ما تشتد المقاومة وتتعاظم الخيبة من اقتراب تحقيق العدو لأهداف الحرب.
وبين هذه الأيّام وغيرها، فإن الجيش الذي اعتاد على مبدأ “صفر إصابات”، يجد نفسه يغرق ليس في الإصابات فحسب وإنما في القتلى أيضا. لم تساعد جنود الاحتلال سياسة الأرض المحروقة ولا جرافات “دي 9” ولا الدبابات والمدرعات التي أُشيع أنها غير قابلة للاختراق.
صارت الدبابات في الكثير من الأحيان توابيت متحركة. وصار الجنود عرضة للقتل سواء كانوا في الدروع أو في الجرافات او في وحدات الكوماندو التي حاولوا تصويرها على أنها “سوبرمانات” بشرية.
تحطمت أشياء ومفاهيم كثيرة لدى الإسرائيليين، وصارت غالبيتهم تجادل نفسها وغيرها في هذه الأمور والمفاهيم.
ويوم أمس، تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية جوانب من التحقيقات الجارية حول ما جرى ويجري: بين قادة دبابات يعترفون بأنهم قصفوا بيوتا في مستوطنات غلاف غزة وهم يعلمون أن فيها مستوطنين إسرائيليين بقصد قتل “مخرب فلسطيني” أو أكثر، وبين قادة طائرات قصفوا بيوتا من دون أن يعلموا أن فيها رهائن او مخطوفين إسرائيليين.
فمبدأ أو إجراء “هانيبعل” لدى الجيش الإسرائيلي يقوم على فكرة أنه من الأفضل لإسرائيل عدم وجود أسرى إسرائيليين لدى العدو، وإنه، إذا احتجزوا، فمن الأفضل أن يكونوا جثثا وليس احياء.
في الوقت ذاته، تتزايد حملة وزراء وساسة ضد الجيش، وبعض من الجيش ضد البعض الآخر، وبعض الوزراء ضد آخرين من الوزراء. ويبدو أن شهر العسل بين نتنياهو وبين كل من غانتس وآيزنكوت في كابينت الحرب بات على وشك الانهيار.
كما أن الجيش الإسرائيلي يبحث في قرار منع جنود من وحدة في لواء جولاني من زيارة أهالي رفاقهم القتلى.
ومن جهة أخرى، يبرر الجيش الإسرائيلي ازدياد عدد الاصابات والقتلى في صفوفه بأن المقاومة تتعلم من أخطائها، وانتباه المقاومة الى نقاط ضعف الجيش في حملته العسكرية. ويقولون إن الجيش لا يستطيع طوال الوقت التحرك فقط بدبابات ومدرعات، فهو بحاجة للحركة عبر شاحنات للإمداد وعبر جيبات “هامر” لضمان سرعة الحركة. ولكن الانتقال عبر هذه الأليات يعرض الجنود لخطر أكبر.
وسط ذلك كلّه، يواصل الاحتلال القتل والتدمير بمبررات وذرائع مختلفة. ويتباهى بانتشاله لجثث جنود قتلى من أنفاق. وأكثر كلمة يردّدها هي كلمة “مصاعب”. والمصاعب التي يقدّمها الجيش لا تتمثل بطول خطوط الإمداد، وإنما باستمرار المقاومة، حيث أنها تتصاعد في الأماكن التي يدعي العدو السيطرة عليها. وكلما تحدث العدو عن انهيار المقاومة، تزداد شدتها. وبات معلقون إسرائيليون يسخرون من تصريحات الجيش عن السيطرة على مناطق قطاع غزة، ولم يعد كثيرون منهم يأخذون هذه التصريحات على محمل الجد.
وما يذهل الاسرائيليين هو أنه على الرغم من أن طائراتهم تواصل القصف في أقرب الأماكن الى الحدود في بيت حانون والشجاعية وشرقي خانيونس وغيرها، إلا أن سقوط الصواريخ يتواصل على غلاف غزة، بل وأحيانا على تل ابيب وجوارها.
وحاليا، يكثر الحديث عن الخطة المصرية. وينظر الإسرائيليون إلى هذه الخطة على أنها بطعم العلقم بمراحلها المختلفة، لكنهم يجدونها الكرة الوحيدة المتوفرّة في الملعب، وعليهم التعاطي معها بهدف تعديلها وتقريبها الى مواقفهم.
ومن المقرر أن يبحث كابينت إسرائيل اليوم هذه الخطة للمرة الأولى. وفي الدبلوماسية هناك تعبير “نعم، ولكن”، لإبداء قبول ظاهري وبعد ذلك تأتي الاستثناءات التي تفرغ الخطة من محتواها وتجعلها تقتصر على مرحلتها الأولى المطلوبة إسرائيليا، وهي تبادل للأسرى ضمن معايير الهدنة السابقة.
“الخطة المصرية”
وتتألف “الخطة المصرية” من ثلاث مراحل لإطفاء حريق الحرب الدائرة على غزة. وتتمثل المرحلة الاولى في هدنة لمدّة أسبوعين أو أكثر لتبادل الأسرى على أرضية إنسانية وبالمعايير نفسها التي سادت في الهدنة السابقة. وهناك حديث عن أربعين مخطوفا إسرائيليا مقابل 120 أسيرا فلسطينيا. وتقوم المرحلة الثانية على أساس إقامة حوار وطني فلسطيني، يقود الى إنشاء حكومة تكنوقراط. أمّا المرحلة الثالثة فتشمل وقف تام لإطلاق النار وانسحاب اسرائيل من القطاع وبلورة شكل ما لحكم فلسطيني للقطاع.
وفي الظاهر، فإن المرحلة الأولى هي ما تريده إسرائيل، في حين أن المرحلة الثانية هي ما يريده النظام العربي لبلورة موقف فلسطيني موحّد يكون أقرب الى الموقف الرسمي العربي. أمّا المرحلة الثالثة، وكما يبدو، فهي الأقرب للتصور الأميركي لإنهاء الصراع.
ومن الواضح أن للقوى المختلفة مواقف متباينة من الخطة التي قيل إنها خطة مصرية، ونشرت في الإعلام من دون أي تبني مصري فعلي لها إلّا من باب التلميح وليس التصريح.
وفي الواقع، أعلنت المقاومة الفلسطينية صراحة رفضها للمرحلة الأولى مما يسمى بالخطة المصرية. وقالت قيادات فلسطينية، خصوصا من “حماس” و”الجهاد الإسلامي”، أنها ترفض أي حديث عن هدنة وإنها تربط تبادل الاسرى بوقف تام لإطلاق النار.
كما ان نتنياهو قد أعلن أن “سنواصل القتال وهذا هو السبيل الوحيد لإعادة مختطفينا”.
ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية عدة أنه بعدما أقرّت القاهرة خطة من ثلاث مراحل لإنهاء القتال، أوضحت إسرائيل أنها ستعارض تنفيذ المراحل، التي تشمل، من بين أمور أخرى، انسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة وتشكيل حكومة تكنوقراط في كل من قطاع غزة والضفة الغربية.
ونقلت صحيفة “يديعوت أحرنوت” عن مصادر إسرائيلية، مساء الأحد، قولها إن المبادرة المصرية لخطة ثلاثية المراحل لإنهاء القتال في غزة تشكل مدخلا للمفاوضات بين الطرفين. وفي الوقت نفسه، أوضحت إسرائيل أنها لن تكون مستعدة لقبول شروط المرحلتين الثانية والثالثة، والتي تشمل تشكيل حكومة خبراء فلسطينية (تكنوقراط) جديدة في غزة والضفة الغربية، وانسحاب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، واتفاق شامل يتم بموجبه إطلاق سراح جميع المختطفين الذين سيبقون بعد ذلك أسرى لدى حماس (جنود وجنود وجنود) مقابل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين “النوعيين”.
وعلى خلفية نشر الخطة المصرية، قال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، في مقطع فيديو نشره: “نحن نعمل على تعميق الحرب في قطاع غزة. سنواصل القتال حتى النصر الكامل على حماس. هذا هو الهدف والسبيل الوحيد لإعادة المختطفين والقضاء على حماس والتأكد من أن غزة لن تشكل بعد الآن تهديدا لإسرائيل”.
أضاف نتنياهو: سيستغرق الأمر وقتا، لكننا متحدون، المقاتلون والشعب والحكومة. نحن متحدون ومصممون على القتال حتى النهاية. للحرب ثمن، ثمن باهظ جدًا في حياة محاربينا الأبطال، ونحن نبذل قصارى جهدنا للحفاظ على حياة محاربينا. ولكن لن يتم فعل شيء واحد، وهو أننا لن نتوقف حتى نحقق النصر”.
ويمكن القول إن قيمة ما يسمى بالخطة المصرية، هو كونها الخطة الوحيدة المطروحة على الطاولة الآن، وإن البديل لها هو استمرار القتال الذي بات منهكا للطرفين وللعالم بأسره. وهذا ربما يدفع بقوى أخرى لطرح خطط أخرى على طاولة المفاوضات، أو ترك الأمر لاستمرار المعارك من دون أي أفق سياسي.