طلال سلمان

الاعتراف والمعروف

أكثر ما يسعد اللبنانيين، ولا سيما الطبقة السياسية التي تتناوب على حكمهم، هو »الاعتراف« بلبنان!
كلما جاءنا ضيف اجنبي، او تحدث إلينا »كبير« من بلاد الله الواسعة، او تطرقت الى ذكرنا مقررات مؤتمر للقمة، سواء في الغرب او في الشرق او في افريقيا، خرجنا في تظاهرات فرح وأقمنا الزينات ولعبنا السيف والترس وشربنا كميات إضافية من العرق، تعبيراً عن السعادة الغامرة والاطمئنان الى المستقبل.
كأنما لبنان، كدولة وكيان وسيادة واستقلال وعنفوان، قشة في مهب الريح تذهب به خطبة او تؤكد وجوده واستمراره بعض البيانات والتصريحات، ولا سيما إذا كانت باللغة الانكليزية.. (ومن قبل كانت الفرنسية هي المطلوبة والمرغوبة للاطمئنان).
كأنما لبنان »بدعة« او »امر عارض« أو »حدث طارئ« يزول بزوال الاسباب التي أدت الى »اختراعه« او ابتداعه لغرض في نفس يعقوب، الذي صار الآن مجهول باقي الهوية.
لهذا سعد اللبنانيون وأيّما سعادة بالاعتراف الاميركي المتأخر الذي تفضلت عليهم به مادلين أولبرايت، أولاً بمرورها في عاصمتهم الجميلة، وثانياً بتأكيداتها الصريحة والضمنية عن استمرار وجود لبنان وعن رعاية الولايات المتحدة الاميركية لهذا الوجود.
ولقد تجاوزت السعادة اللبنانية كل حد مألوف عندما تطرقت الوزيرة اولبرايت في اعترافها بلبنان الى دولة القانون فيه، وحددت شروط بنائها لتكون قوية، مهيبة، راسخة، جذرها ثابت في الأرض وفروعها في السماء.
ومما أثلج قلوب اللبنانيين، شعباً وحكماً منسجماً وموحد الارادة والمصالح، ان تكون اولبرايت قد تطرقت الى التفاصيل فلم تغفل منها تفصيلاً: من تعدد الحضارات والثقافات الى تنوع الاعراق والاصول، بما يجعله نسخة مصغرة عن الولايات المتحدة الاميركية التي لا بد ستحميه بوصفه »نموذجاً« أو مجسماً هزيلاً عن كيانها الهائل الامتداد والغنى والقوة.
ليس في العالم كله »كيان« مهزوز، في نظر أبنائه على اختلاف مواقعهم في الحكم ومنه، مثل لبنان،
لكأن كلمة واحدة من مسؤول تذهب به أو تؤكد دوامه وخلوده كما الأرز العتيق!
مع ان هؤلاء اللبنانيين انفسهم لا يتعبون من نظم الزجل البديع في عراقة الكيان الخالد، ويكاد بعضهم يرجعه الى ما قبل الخليقة، فإذا ما تواضع أعطاه من العمر ستة آلاف عام او يزيد..
وعبر المحاورات اليومية التي غالباً ما يشوّشها القلق على المصير يمكن ان تستنتج أن ثمة انفصالاً واقعياً بين »لبنان« وبين »اللبنانيين«،
لكأن لبنان »صفة« او مجموعة من المواصفات التي يتحلى بها هؤلاء التجار من جوّابي البحار والآفاق اكثر منه »وطناً« لهم.
هم يهتمون بكيانه كحالة سياسية فريدة تحظى بحماية دولية، وتوفر لهم مجموعة من الامتيازات في المجال الاقتصادي أساساً، وفي المجال السياسي الى حد ما، اكثر مما يهتمون به وطناً لهم يستمدون منه شرف الانتماء ويستحق بالتالي أن يذوبوا فيه ويكونوا له ويموتوا من أجله.
إنهم، في نظر أنفسهم، أهم منه.
ولا يعنيهم من »الاعتراف« المتكرر بكيانه إلا التسليم بالامتيازات التي تأتيهم من نعمة التمتع بجنسيته (التي لا مانع أبداً من تعزيزها بجنسية أخرى او بجنسيتين لا بد من ان تكون واحدة منهما أوروبية والثانية أميركية، ولو عبر كندا).
… الآن وقد استحصلنا على الاعتراف الاميركي الاكثر تفصيلاً ودقة وشمولاً، نتمنى ان يهدأ خوف الخائفين على كيانهم اكثر مما على وطنهم.
وشكراً لأولبرايت التي طمأنتنا بعد خوف وأطعمتنا بعد جوع، وآمنتنا بعد احتلال اسرائيلي مولع بالدم وشغوف بالأشلاء الإنسانية!

Exit mobile version