هي رحلة مثقلة بالرموز تلك التي أنجزها اعضاء مجلس الاتحاد البرلماني العربي، يوم أمس، من دمشق الى قانا الجنوب.
لقد عبروا حقبة كاملة من عصر التردّي العربي في اتجاه الفجر الجديد الذي يصطنعه الدم »القاني« المضمخ بعطر زهر الليمون: ما بين 17 ايار 1983 و17 ايار 1996.
كل الذين صمدوا، باسم امتهم ومن اجل غدها، ما زالوا على هذا الخط، بين دمشق وقانا الجنوب. لم يختف من المشهد الا الذين سقطوا او اسقطوا انفسهم متحولين من »ثوار« الى »شرطة« اضافية لحماية الاحتلال.
الناس هنا. الاطفال والصبايا، الشيوخ والنساء، والرجال الرجال هنا: لم يرحلوا ولم ينزحوا. باقون في الأرض ومعها، صامدون بها ولها. هي حياتهم وهم حماتها، فإذا ما جاء زمن المواجهة قاتلوا باللحم حتى ينغرسوا فيها زيتونات مباركة.
***
ولسوف يكتسب البرلمانيون العرب بعض شرعيتهم، غدù، من زيارتهم التظاهرة الى قانا الجنوب، امس، والمشاركة في »عرسها«، ولو رمزيù.
ولعل كثيرين منهم سيصيرون، بعدما تبركوا بزيارة ارض الشهادة والصمود، ممثلين لشعوبهم بعد العودة أكثر بكثير مما كانوا حين توجهوا من عواصمهم الى دمشق للمشاركة في دور انعقاد عادي لمجلسهم الذي يكاد يكون نسيù منسيù.
سيقول واحدهم بكثير من العزة: أنا عائد من قانا، فيكبر في عيون زوجه وأطفاله ثم الشعب كله، وقد يكتسب بعض سمعة »المجاهد«… ولسوف يروي لأهله والناس في بلاده صورù مجيدة عن هؤلاء الذين افتدوا العرب كلهم بدمائهم وأرواحهم والبيوت والارزاق، برغم مرارات الشعور بالتخلي وترك لبنان وحيدù أمام »العدو« القومي، عدوهم جميعù حتى لو فروا من أعباء مواجهته الى الاستسلام المهين.
وسيردد معظمهم نداء لبنان الذي سمعوه من رئيسه الياس الهراوي: »الكرامة اولاً، والسلام ثانيù، لأنه لا سلام بلا كرامة«،
و»إذا يراد السلام فعلاً فلماذا لا يراد إلا وسط القبور«، قبور العرب طبعù !!
و»لبنان يدافع عن اشقائه العرب، ولبنان يدفع بدمائه عن العرب«،
وقد تجرأ بعضهم فيجهر هناك بما سمعه في قانا من زميله رئيس المجلس النيابي اللبناني عن »17 أيار الذي ارادته اسرائيل يومù لإلحاق العار بلبنان عبر فرض الاتفاق عليه في العام 1983، ورفضنا ان نساق وحدنا، ورفضنا ان ننفرد وحدنا وبقينا مع العرب، كل العرب«.
* * *
لن يرجع واحد منهم كما جاء،
ولا يتصل الأمر بالعاطفة والحزن على شهداء المجازر الاسرائيلية »فليست قانا حائط مبكى«،
بل يتصل الأمر بهرولة الحكام الى الاستسلام والى بيع دم هؤلاء الشهداء في سوق النخاسة.
من زمان كان هؤلاء المنذورون للشهادة ينتظرون مثل هذا الموعد مع اشقائهم العرب، ليعتزوا بانتمائهم القومي، وليخرجوا من صقيع الوحدة الى دفء النضال المشترك من اجل المصير الواحد، ولقد كان يؤلمهم ان يستقبلوا الغريب المتعاطف، سياسيù او عسكريù او رجل اعلام، ولا يجيء لزيارتهم الاخ الشقيق، المساند ورفيق السلاح وحاميهم من »قاتل الاطفال« في كل ارض عربية.
ومن حظ هؤلاء البرلمانيين العرب انهم لمرة، غرقوا في بحر »الناس« الطيبين كما الارض، المعطائين كما الارض، والصادقين كما الارض، والذين وجوههم بلون الارض وكذلك ايديهم المباركة بعرق رعاية الارض وحفظها.
فأهلاً بالبرلمانيين العرب، ولو انهم جاؤوا متأخرين عن الموعد،
ولنأمل ان تستقبل قانا الجنوب سائر المسؤولين العرب، ولا سيما من يستطيعون ما هو أكثر من العاطفة النبيلة.