كان العرب يتسلون، أو يسلون همومهم، بالتفرج على الديموقراطية اللبنانية ومبتدعاتها وأساليبها المبتكرة وطرائفها التي لا تنتهي..
كانوا، في حالات كثيرة، يتمثلون أنفسهم لبنانيين ، فينحازون إلى هذا المعسكر أو ذاك، وقد يتخاصمون ويتنابذون بالألقاب السياسية اللبنانية ، فإذا بينهم انعزاليون وإذا في مواجهتهم وطنيون وحدويون ، وإذا بينهم متحمسون ل حزب الله والمقاومة في مواجهة إسرائيل، وبينهم بالمقابل من يعتبر أن لبنان أرق من أن يتحمل أية أعمال حربية ولو بداعي التحرير، وأنه منتجع فيه كل ما يحتاجه المتعبون في بلادهم، سياسياً واجتماعياً، يجيئون إليه فيستمتعون، يعطون اللبنانيين ويأخذون منهم ثم يفترقون على موعد للقاء جديد..
في السنوات القليلة الماضية بطلت الديموقراطية اللبنانية أن تكون مسلية. دخل العنف إلى اللعبة فباتت مخيفة، واصطبغ وجه لبنان بالدم، وافتقد اللبنانيون الأمان، وكذلك ضيوفهم..
ولأن إرادة الحياة هي الأقوى فقد استمر اللبنانيون يغنون ويرقصون ويدبكون وينشئون العمارات الشاهقة ويشكلون الشركات القابضة ويوسعون مداهم الحيوي في العديد من البلاد العربية والأفريقية، وينافسون كبريات الشركات العالمية ويسهمون في نهضة الأقطار العربية الغنية بخبراتهم وعلاقاتهم العامة (وأخطر منها الخاصة)، فإذا هم في كل مكان وفي كل مجال تتقدمهم حيويتهم الهائلة والقدرة غير المحدودة على الابتكار..
شيء واحد نقص فافتقده الأخوة العرب في لبنان هو اللعبة الديموقراطية . انتبه اللبنانيون، ومن ثم إخوتهم العرب، إلى أن الديموقراطية ليست لعبة، بل هي شرط حياة في المجتمعات الراقية. واكتشفوا جميعاً أن هذا الشرط غائب أو مغيّب بالقصد..
لقد تبيّن بعض الإخوة العرب أن الديموقراطية في لبنان كانت بين شروط نجاح المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.. وأن النصر على الاحتلال كان نصراً للديموقراطية، وهذا مرض معد . وهكذا كان لا بد من معالجة لبنان واستئصال هذا الداء اللعين.
اليوم يتوزع الإخوة العرب ويوزعون إعجابهم بين الديموقراطية الإسرائيلية، كما تجلت خصوصاً في محاسبة حكومة أولمرت وجيشها عن الفشل في حربها على لبنان، وبين الديموقراطية الأميركية كما تتجلى في اتساعها لمرشحين فيهم الأسود المتحدر من أصول أفريقية، وفيهم المرأة المتحدرة من تجربة رئاسية لولايتين، عدا عن المرشحين الطبيعيين وإن كانت لهم وجوه بلاستيكية..
فأما الديموقراطية الإسرائيلية فقد أمتعت الإخوة العرب ، إذ هي أعادت الاعتبار إلى رئيس الحكومة الذي راهنوا عليه شريكاً في سلامهم المنشود: إيهود أولمرت!..
لولا الديموقراطية في إسرائيل لكانت لجنة فينوغراد قد كالت الاتهامات لأولمرت وحكومته والقادة جميعاً، متسببة في ضرب هيبة الدولة ، وفي تقديم حزب الله كبطل للأمة العربية (والإسلامية) عبر الصمود الأسطوري لمجاهديه على خط النار، ولأهاليهم تحت القصف والبيوت المدمرة، ثم للعودة المظفرة لمئات الألوف من المهجرين إلى قراهم ومدنهم التي غدت خرائب فور الإعلان الرسمي لوقف إطلاق النار..
لقد أنقذت الديموقراطية الإسرائيلية حليف الإخوة العرب الذين ذهبوا إليه، بلا شروط، في أنابوليس، تلبية لنداء السلام الذي أطلقه بطل السلام، كما تدل تجربة تحريره العراق من دولته وشعبه ووحدته الوطنية، الرئيس الأميركي محادث الله جورج و. بوش.
… وها قد جاء موسم الديموقراطية الأميركية، المواكب لانتخابات الرئيس الجديد، وهي بالنسبة للإخوة العرب أمتع من حفلات المصارعة الحرة، وأكثر إثارة من حفلات سوبر ستار و ستار أكاديمي ، خصوصاً وأنها سوف تقرر مصائرهم… وهم في أي حال مسلِّمون بنتائجها كيفما انتهت: هل تريدهم أن يعترضوا على إرادة الناخب الأميركي، هم الذين لا يعرفون فعل الانتخاب ، وبالكاد تعلموا كيف يبصمون بدل التواقيع على النتائج المعلنة قبل الترشيح!؟
على اللبنانيين أن ينتظروا بعض الوقت، مبادرات اخوانهم العرب، لحل أزمتهم التي كانت رئاسية فصارت مصيرية..
على اللبنانيين، وهم الديموقراطيون بالفطرة ثم بالنشأة، أن ينتظروا نتائج المعارك الديموقراطية في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، فهي وحدها من تقرر مستقبلهم، كما مستقبل العرب جميعاً، وأمامهم نموذجان محددان: إما العراق تحت الاحتلال الأميركي، وإما فلسطين تحت الاحتلال الإسرائيلي.
والخيار حر. أي أنه خيار ديموقراطي أصيل!