مع حافظ الأسد يكتسب العيد معنى سياسيù متميزù يخرجه من دائرة الاحتفال بالماضي ليجعله نوعù من تجديد للتعاقد حول المستقبل، أي حول الأصعب والأقسى من المهمات الوطنية والقومية الجليلة.
وهو تعاقد تفرضه وتبرّره التجربة الغنية والناجحة على امتداد الخمس وعشرين سنة الماضية: فمن أنجز حيث عجز غيره، ومن صمد فلم يفرط ولم يتفرّد ولم يتنازل ولم يطأطئ رأسه للضغوط، سياسية واقتصادية وعسكرية، ومَن قاوم باللحم الحي وسط صحراء التخلي والهرولة إلى اتفاقات الإذعان، هو هو مَن يستحق موقع القيادة وشرف المسؤولية عن المرحلة المقبلة بكل أثقالها المتوقعة.
لم يعد حافظ الأسد قائدù وزعيمù لسوريا فحسب.
لقد تجاوز حدود هذا القطر الذي مهما تصاغر يظل كبيرù ومستفزù بعبق التاريخ فيه وأطياف أولئك الرجال العظام الذين جعلوا من دمشق عاصمة للدنيا على امتداد قرون.
إنه في موقفه المتميِّز يكاد يجسّد إرادة الصمود العربي. إنه يكاد يكون »العرب« أو »العربي« في ما يتمناه لنفسه.
لم يعد حافظ الأسد خارجنا. لقد بات جزءù منا، من كل واحد منا، ومنا مجتمعين. إنه الآن داخل كياننا الفردي والسياسي والوجداني، بالرغبة أو بقوة الأمر الواقع، بالحب أو بمشاعر الخصومة عند كارهيه لأنه يفضح بشجاعته جبنهم، وبحساباته الدقيقة وحكمته ودهائه وصلابته إنما يعري تخاذلهم وتسليمهم بغير قتال وبغير طلب وخفتهم وتفاهة أوهامهم في »التحالفات« وملاطفات الدول العظمى!
إن حافظ الأسد قد انتزع لنفسه شرف القيادة بكفاءته. وهو قد عمل وسهر وتعب طويلاً حتى استحق المكانة التي يتمتع بها اليوم ليس فقط على المستوى العربي، بل أساسù على المستوى الدولي.
وفي البدايات كان عليه أن يقاتل ضد البيئة السياسية التي جاء منها سنة 1970. فهو قد وصل إلى المسرح السياسي والغموض يلف شخصه وحركته. كان آتيù من حومة التباسات سياسية فكرية عقائدية وعسكرية متداخلة مع كل المترسّب في النفوس المشرقية من حساسيات أيام »الفتنة الكبرى« ثم من ركام القهر والتخلّف والإحساس بالظلم الذي كان يحبس الناس في تراث عهود الاحتلال الأجنبي ويكاد يحرفهم عن طريقهم إلى شمس الغد.
أما اليوم فقد دخل حافظ الأسد في نسيج حياتنا وانطبعت صورته على أيامنا وليالينا. إنه معنا حيث كنا: في البيت، في المكتب، في السيارة، في المطعم، في السهرات العائلية كما في اللقاءات السياسية.
لم يعد ممكنù الحديث عن العرب من دون حافظ الأسد، وكثيرù ما يكون الحديث عنه هو حديث عنهم مجتمعين (على فرقتهم).
ولقد تعاظم تأثيره حتى كاد يختزل بشخصه، بأسلوبه المتميز في الحرب كما في المفاوضة، الصراع العربي الإسرائيلي… أي أخطر صراعات هذا العصر.
لكأنه الدور العربي في هذا الصراع التاريخي المفتوح.
لا يستطيع حاكم عربي أن يتجاهله أو أن يتجاوزه، أيا تكن »عاطفته« حياله، بل هو مضطر لأن يهيئ سلفù الأعذار والمبررات التي يمكن أن يقبلها حافظ الأسد، أو التي يمكن أن تمنع عنه أو تحد من تأثيرات رد الفعل السلبي المحتمل لحافظ الأسد.
كذلك فإن الحسابات الإسرائيلية تكاد تبدأ به وبه تنتهي، وهي باتت مضطرة لأن تحتاط لرد فعله المحتمل والمؤثِّر قطعù على الأطراف جميعù، بهذه النسبة أو تلك، والذي قد يتوصل إلى نسف ما قد يسلّم به ويقبله الآخرون.
سقطت نظرية الأكثرية (العددية) والأقلية، وبات الموقف ولو وحيدù أقوى من الأكثريات التي يحتشد فيها الملوك والرؤساء والسلاطين وشيوخ الغاز الشاردون!
وقد استطاع حافظ الأسد بقراءته الدقيقة والمتميزة للتحولات وموازين القوى أن ينتزع لنفسه حق النقض على القرارات التي لا تناسب رؤيته أو تتجاهل موقفه.
ولم يكن ذلك ممكنù لولا أن حافظ الأسد قد وعى دروس التاريخ، وظل قريبù من نبض الناس ومن الحس الشعبي العام: فهو ليس وحيدù في صموده، بل إنه معبِّر ممتاز عن كل تلك الملايين التي تركت وحيدة في صمودها أو عوقبت على صمودها من أبناء الأكثرية العربية الصامتة.
وليست مصادفة أن كل الذين لم يلقوا السلاح بعد، لا عقائديù ولا عمليù، يتلاقون في دمشق، ويتوجهون إلى دمشق ليسترشدوا بها ويتلقوا منها الدعم، وليمدوها بما استطاعوا من دعم معنوي، هو كل ما يملكونه.
وليست مصادفة أن يكون أربعة من الرؤساء الأميركيين قد تحرّكوا للقاء حافظ الأسد، إثنان منهم في دمشق وإثنان في جنيف، بينما لم يذهب إليهم أبدù في واشنطن، حيث يتزاحم الملوك والرؤساء العرب على طلب الدعوة أو ينتظرون بتهلف فرصة اللقاء ولو عابرù.
إنه سلاح الموقف.
مَن قال إن الموقف قد بات من تراث الماضي؟!
الموقف هو الحاضر والمستقبل.
والعيد، اليوم، هو عيد الموقف الذي به كبُر حافظ الأسد وقد كبُرت سوريا بهما معù، وكبُر بالثلاثة معù العرب جميعù… بمن فيهم كل »المهرولين« والطامحين إلى الهرولة!