لم تكن مجاملة شخصية أن يقصد الرئيس السوري حافظ الأسد مطار دمشق، مساء أمس، ليستقبل ضيفه ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز: كان ذلك إشهاراً لموقف يُقرأ بالسياسة وليس بالبروتوكول، وردا على التحية بأحسن منها، وتوكيداً للرابط القومي ووحدة الموقف في القضية الأصلية، أي الصراع العربي الإسرائيلي، وتحديدا في طوره الجديد، أي بعد سقوط نتنياهو وتسنم باراك سدة السلطة في تل أبيب.
لقد تصرفت الإدارة الأميركية، بعد الانتخابات الإسرائيلية، وكأنها أدت قسطها للعلى، ووفت بتعهداتها للعرب، وصار الدور عليهم الآن لكي يتقدموا فيتعاونوا مع باراك لإنجاز »العملية السلمية«، فإن هم تقاعسوا فالذنب ذنبهم.
وتسلل العديد من المسؤولين العرب، أو هم همّوا بالانسحاب خارجين من (وعلى) موجبات التضامن، ولو بحده الأدنى، ومن التزاماتهم في قمة القاهرة، وهي أدنى الأدنى، ليستأنفوا »هرولتهم« من جديد في اتجاه خليفة »شريكهم« المعزول شيمون بيريز، الذي جاء خليفة لشريكهم المقتول إسحق رابين..
وكان منطقهم امتداداً هزلياً للتصرف الأميركي: لقد سقط »التطرف« بسقوط نتنياهو، وجاء وعد السلام مع »المعتدل« باراك، فماذا ننتظر بعد؟!
كأنما كانوا هم من انتصر في الانتخابات الإسرائيلية فهزم نتنياهو، أو كأنما كان نتنياهو هو العدو بشخصه لا بنهجه ولا بسياساته، أو كأنما إيهود باراك قد كرّس حياته جميعاً للدعوة إلى السلام والعمل له، أو كأنه قادر حتى لو أراد على أن يلوي أعناق كل أصناف التطرف الديني والسياسي والأثني في إسرائيل ليجبرهم على التسليم بحقوق العرب في أرضهم بدءاً بفلسطين مروراً بلبنان وانتهاءً بسوريا.
في هذا الوقت، وبينما تتهاطل المطالبات بفتح الباب أمام باراك وبضرورة مساعدته وتسهيل مهمته،
.. وبينما كانت تنشط المساعي لبعث »دول الطوق«، التي صارت من الذكريات، وجمعها في قمة كإعلان حسن نية بباراك، وتسليم بغير شروط »للتمني« الأميركي بدعمه،
في هذا الوقت بالذات، كان ولي العهد السعودي يعلن، في كل محطة من محطات جولته الدولية والعربية الواسعة، الالتزام بثوابت الموقف العربي، موجهاً التحية بصورة خاصة وبقصد مقصود الى الرئيس السوري حافظ الأسد، معرباً عن تقديره الكبير لحكمته وإخلاصه لمبادئه، وعن اعتزازه بصمود سوريا، ومعها لبنان.
الأخطر أن ولي العهد السعودي الأمير عبد الله بن عبد العزيز استمر يؤكد ويعيد التأكيد على تلك الرغبة بل الأمنية الحارقة التي سقط دونها أخوه الراحل الكبير الملك فيصل بن عبد العزيز قبل أربعة وعشرين عاماً، وهي الصلاة في المسجد الأقصى بالقدس الشريفة.
وإذا كان الامتناع عن الذهاب إلى غزة قد صيغ بلباقة لا تجرح الفلسطينيين، فإن إعلان الاعتزاز بالصامدين في سوريا، ومعها لبنان دائماً، لا يحتمل التأويل متى ارتبط بالتمسك بأمنية الصلاة في المسجد الأقصى بالقدس الشريفة، بينما سلطة عرفات تحاول تمييع الغضب داخل فلسطين كتنازل إضافي، وتمتنع عن أي موقف ولو لفظي يمكن أن يعكّر صفو الانتصار الباراكي الذي لم يعدها إلا بتصفية قضيتها، بدءاً بالقدس وانتهاءً بحلم الدولة.
ومن دون رغبة في التباهي، فإن مصادفة وصول الأمير عبد الله إلى دمشق، مع اندحار الاحتلال الإسرائيلي، واضطراره إلى سحب الميليشيا العميلة بقيادة أنطوان لحد من منطقة جزين، قبيل انهيارها الكامل تحت وطأة الضربات الموفقة والمتواصلة لمجاهدي المقاومة الباسلة، تجيء وكأن أهل الصمود على موعد للتلاقي وللتوكيد على الطريق الصحيح للوصول إلى »سلام مقبول«.
بل إن حماية مجد الصمود بشرف المقاومة هي أقصر الطرق إلى »سلام« لا يخجل منه مَن يوقعه، أو لا يسقط ضحيته تطارده اللعنات اليوم وغداً وإلى دهر الداهرين.
كذلك فليس ادعاءً القول إن لبنان كان الطرف الثالث في لقاء حافظ الأسد عبد الله بن عبد العزيز.
بل لعل »الدرس اللبناني« قد حدّد وجهة المباحثات، من خلال ما يقدمه من شهادة مكتوبة بالدم، على أن المواجهة وبالقوة متى لزم الأمر تفتح الطريق أمام »العملية السلمية«، أما التنازلات فتفتح الطريق أمام الهيمنة الإسرائيلية شبه المطلقة على المنطقة جميعاً وصولاً إلى آخر الشرق في آسيا.. وبالتالي فهي تلغي السلام ولو كاحتمال لتفرض تبعية أشبه بالرق.
إن قلة من المسؤولين العرب »يجرؤون« على القدوم إلى دمشق، الآن،
وقلة من هذه القلة من يأتي لدعم الصمود.
أما الباقون فيأتون ليطلبوا إلقاء السلاح، مع تلويح بضرورة العجلة في إلقائه وإلا.. »فاتكم قطار الحل«.
من هنا تكتسب زيارة الأمير عبد الله لدمشق أبعادها الكاملة: إنه آت كرفيق سلاح، سياسياً، وليس كمروّج لسلام فاسد،
خصوصاً أن ولي العهد السعودي قد أعطى موقفه هذا أبعاده الكاملة باستخدام لغة جديدة في الحديث عن إيران.
كما أنه قادم من ليبيا القذافي بعدما أسهمت السعودية إسهاماً مؤثراً في كسر الحصار المفروض عليها بغير تبرير مقنع أو يمكن أن يكون مقبولاً في ظروف طبيعية لا تفرد فيها الهيمنة الأميركية ظلالها على الكون كله، تقريباً.
ومن حق لبنان أن يرى أن مواقف الأمير عبد الله هذه تعنيه أيضاً، حتى ولو لم يشمله بجولته.
فقبل عام سمع لبنان مثل هذا الكلام وأكثر.
وأن يسمعه مجدداً اليوم وفي دمشق ومنها، فإنما يعزز إيمانه بأن صموده قد زاد من منعة الموقف العربي وأعاد إلى »السلام« المطلوب والمقبول، بعضاً من معناه.