كائنا ما كانت طبيعة الحكم الذي سيصدره المجلس العدلي اليوم في قضية اغتيال داني شمعون وزوجته وطفليه، فإن هذا السبت الواقع فيه الرابع والعشرون من حزيران 1995 مرشح لأن يكون نقطة تحول او ربما بداية تاريخ جديدة للبنان، دولة وشعبا.
ولسوف يساعد الحكم الناس، وسواء اكان بالادانة وبالتالي بالاعدام ام بالبراءة، على تجاوز الاحقاد والغرائز والرغبة في الانتقام او الثأر،
ان العدالة لسوف تنطق اليوم »باسم الشعب اللبناني«.
ان القضاء، كمؤسسة ضامنة لحقوق الناس وحياتهم وكرامتهم، وكأساس مكين لقيام الدولة هو المرشح لأن يولد من جديد عبر الحكم الذي ستلفظه اعلى هيئة قضائية في لبنان في واحدة من الجرائم الكبرى التي لا تخفف من فظاعتها الخصومة السياسية ولا يبررها الفلتان الأمني وغياب الدولة.
حتى هذا الصباح فإن سمير جعجع هو واحد من »الابطال« المبرزين في الحرب الاهلية، وقائد اخطر الميليشيات واعظمها تنظيمù وتعبئة وتسليحا وتمويلا واغناها بشبكة التحالفات والعلاقات السياسية،
وهو لا يحاكم على تاريخه في قيادة »القوات اللبنانية« وما صدر عنها، وما اتهمت بارتكابه من جنايات جماعية، ولا على ما انجزته او انطلاقù من عقيدتها المعلنة التي طالما دعت الى التقسيم والكانتونات الطائفية على قاعدة التعددية الحضارية بل وحتى »القومية« او »العرقية« والتي كادت تجعل من اللبنانيين شعوبا وامما شتى وليس شعبا واحدù بأرض واحدة يقوم عليها كيان سياسي واحد،
انه يحاكم بتهمة المسؤولية عن جريمة منظمة وموصوفة بالذات هي جريمة اغتيال داني شمعون وعائلته، وبمعزل عن ذلك التاريخ الذي كان جبَّه العفو كما تاريخ اقرانه من امراءالحرب لولا اتهامه بتفجير الكنيسة في ذوق مكايل، وهي التي اسقطت العفو وقادت الى محاكمته عن واقعة حصلت قبله.
***
كان المشهد على امتداد مائة وثلاثة وخمسين يومù من المحاكمة الوجاهية، شاهدù على درجة عالية من التحضر، كما على تلهف المجتمع اللبناني الى الخروج من الحرب:
لم يحدث احتكاك واحد بين ذوي الضحايا وبين المتهمين بالجريمة، لم يوجه احد منهم كلمة نابية الى الآخر، لم ينظر واحد شزرù الى الآخر، لم ترتفع الصرخات غضبù او نقمة او تفجعù، لم تُخرق حرمة المحكمة، لم تقاطع المحكمة محاميù يترافع، ولم تظهر ضيقها بنقاش او بطلب استيضاح، واظهرت من سعة الصدر ما يليق بأعلى هيئة قضائية في لبنان، وكانت في مجمل تصرفات رئيسها الوقور والدقيق والاشبه بناسك تحمي كرامة القضاء اللبناني وتؤكد أن الحرب لم ترمه بأورامها الخبيثة.
***
اليوم، ومع صدور الحكم، سيباهي »الشعب اللبناني« الذي باسمه سيحكمون، بأنه قد استرد الكثير من عافيته ومن وعيه ومن ثقته بالغد، وبأنه لم يعد قاصرù لا بد من وصي عليه حتى يبلغ سن الرشد.
اليوم، ومع الولادة الجديدة للقضاء سيكون على اللبنانيين ان يفتشوا او ان يبتنوا دولة لهذا القضاء،
اليوم سيعلو القضاء فوق السلطة واركانها، فوق الخصومات والمنازعات والاحقاد والغرائز، وكذلك فوق الطائفية والمذهبية والجهوية، ليثبت ان »الشعب اللبناني« الذي ينطق باسمه »واحد«، وانه معافى، وانه قادر على تجاوز الحرب، والأهم انه يستحق أن تكون له دولة لها حكم في مستوى قضائه.
وما دام في لبنان قضاء وعدالة فإن الباقي تفاصيل،
ولسوف يكون القضاء قد حقق، في جملة منجزاته، انتصارù باهرù على الاغراض والمطامح والمطامع التي كان يوسوس بها السياسيون، وأهل الحكم منهم في الطليعة.
انه حكم على حقبة، وعلى عقلية، وعلى منطق متهالك،
وهو حكم يصلح قطعù لمستقبل مختلف ليس فقط عن الامس وانما عن اليوم ايضù.