السؤال الآن: ماذا بعد؟!
ماذا بعد كل هذا الانشغال بالذات، حكومة ومعارضة، دفاعا أو هجوما، مشاحنة ومماحكة، معارضة واعتراضا، تشهيراً ورداً على التحية بأحسن منها؟!
لقد امتدت ساحة المجلس النيابي فسيحة، طوال أربعة أيام بلياليها، فاتسعت للحكومة ومناصريها والخصوم ومحالفيهم، كما للحائرين المترددين بين خوفهم من سيف السلطان وتطلعهم إلى مجد الموقف المكلف، سلباً وإيجاباً،
لكن هموم الناس بقيت أثقل من أن يخفف منها ادعاء الانتصار أو الزعم بتجنب الهزيمة، خصوصا وأن النتائج لم تختلف عن المتوقع، ولم تقع أية مفاجأة دراماتيكية في »النص« أو في الخروج عنه.
ولعل تلك الهموم أثقل من أن تحملها وتقوم بها الحكومة والمعارضة معاً، إذا ما وقعت المعجزة فتهادنتا والتفتتا إلى ما يتهدد لبنان والمنطقة كلها من مخاطر »مرحلة باراك« الذي باشر هجومه »السلمي« من واشنطن وعليها حين رفضها وسيطاً وطالبها بأن تكون »مجرد مسهّل« بحيث يلغي فعلياً دورها المتوقع والمأمول بل و»الطبيعي« كراع وضامن ومحرِّك ودافع لإنجاح المفاوضات على قاعدة مؤتمر مدريد، طيَّب الله ثراه.
ولقد كانت »مصادفة قدرية« ذات دلالة أن تنتقل عيون اللبنانيين ليل أمس الأول من مشهد الختام لحفلة »المصارعة« بين حكومة الدكتور سليم الحص والمعارضة التي رآها مختزلة ومختصرة في شخص واحد، ولو غاب، هو سلفه و»مورثه« التركة الثقيلة رفيق الحريري، إلى مشهد لقاء الطفل المتلهف إلى لعبته المفضلة، بيل كلينتون، مع ضيفه الذي رفض هذا التوصيف وأجبره على سحبه والاعتذار عنه وألزمه بتبني توصيفه الشخصي للدور الأميركي، رئيس حكومة المعجزات والمفاجآت التاريخية إيهود باراك.
كانت المقارنة »كاريكاتورية« ومفجعة في وقت واحد: فأين انشغالاتهم واهتماماتهم التي تتصل بمصيرنا والتي لا بد ستؤثر فيه عما ننغمس نحن فيه من مخاصمات ومكايدات ومناورات يستهدف بها كل طرف إلغاء الآخر، أو إدانته وتجريمه والطعن في وطنيته لعله بذلك يخرجه من حلبه المنافسة أو المشاركة في المسؤولية، فينفرد بها بغير شريك!
وكان لا بد أن يستذكر اللبنانيون أن عدوهم الآتي من ميادين الحروب والاغتيالات والقتل المباشر لمناضليهم والساعين لحماية أرضهم، قد أنفق أكثر من ستة أسابيع من النقاش المفتوح مع خصومه ومنافسيه (قبل حلفائه) سواء داخل حزبه أو مع القوى والأحزاب والهيئات السياسية والدينية الأخرى، »متطرفة« و»معتدلة«، متناقضة في ما بينها، أو مختلفة معه، حتى خرج بحكومة تمثل الأكثرية المطلقة من الإسرائيليين، على تعدد اتجاهاتهم، لكي يؤمن الحماية الضرورية لحركته وهو يواجه العرب، أو من تبقى منهم، في معركة التسوية التي تتجاوز في قسوتها كل الحروب.
كذلك كان لا بد أن يتنبّه اللبنانيون إلى الدقة البالغة والعناية الفائقة والحركة المحسوبة التي تتحلى بها حركة حليفهم الاستراتيجي (الأوحد) وشريكهم في المسار والمصير، سوريا بقيادة حافظ الأسد، في مواجهة التطور الإسرائيلي الجديد، وما يحظى به من عطف دولي ومن رعاية أميركية ومن ترحيب »عربي« مجاني يقدم له »سلفات« بل »منحاً« تحسم من الحق العربي، وتضيف إلى الرصيد الإسرائيلي الهائل… كأنما ما جنته إسرائيل من اتفاقات وتنازلات وانفتاحات عربية ما زال أقل مما يفرضه »الواجب القومي« عليهم!
لا علينا… فلنفترض أن ما شهدته »حلبة« المجلس النيابي هو نقطة النهاية لما كان، فقد تمّت تصفية الحسابات، وأُقرت الموازنة أخيراً، ولم يعترض أحد جدياً على برنامج الإصلاح المالي المتروك امتحانه للأيام وإثبات أهليته بما وضع من أجله،
فلنفترض أننا عدنا إلى »نقطة الصفر«،
ولنتذكر أن لبنان أكبر من حكومته ومعارضيها،
لا يعادل أي حكم في العالم، أو أية حركة سياسية، كائنة ما كانت وجهتها، الوطن وتطلعات أهله.
والحكم بإنجازه، وبشهادة الجدارة التي ينالها من شعبه عما حققه فعلاً، متصلاً بحرياته وحقوقه الطبيعية في العيش الكريم، أي في الإنماء والتعليم والاستشفاء والطبابة ومستوى الدخل، وفي التقدم إلى المكانة التي تليق به وبكفاءات أهله.
ولم يُحسب بين إنجازات أي حكم أنه ألغى من سبقه فحسب، علماً بأن ذلك متعذر، في بلد متنوع وغني فقط بطوائفه والتيارات والاتجاهات والولاءات التي لا تنبع دائماً من السياسة أو تنتهي فيها وبها.
لتكن لحظة بداية جديدة،
وليبدأ الإعداد والاستعداد لما سيواجهه لبنان، ومعه دائماً سوريا، على صعيد قضيته الوطنية والقومية،
ولنستعد ونحضّر أنفسنا جدياً حتى لا نكون عبئاً على سوريا، أو حتى لا تدهمنا الأحداث ونحن مشغولون بملفات الماضي، بينما نحن مهدَّدون في مستقبلنا جميعاً، وبما يتخطى الحكام والحكومات والمعارضين والحائرين والضائعين والمنافقين الذين يزيّنون الخطأ للجميع، حتى لا يكون ثمة أصحاء أو أبرياء.
إنها ساعة الحقيقة تقترب،
ولبنان كله مطلوب الآن إلى خدمة العلم،
فليتوقف الشجار العبثي حول لعبة السلطة،
ولنتذكّر باراك وكلينتون وما يحضّران،
… هذا مع العلم أن المتعاركين في بيروت أهم، بالتأكيد!
طلال سلمان