طلال سلمان

على الطريق زمن النضوج مع حافظ الأسد..

ينفتح الباب العريض ويطل عليك حافظ الأسد فيسبقه إليك مع ابتسامة الود المرحبة شعور مكين بالطمأنينة: تستطيع أن تلقي بأثقالك هنا، وهنا تتهاوى الأسئلة المقلقة فتتلاشى مخلفة في نفسك شعوراً بالامتلاء، وبأنك تعرف كل شيء عن كل شيء، من أبسط التفاصيل إلى أخطر المسائلز
ويأسرك باعتذاره الرقيق عن التأخير في موعد اللقاء المرتجى لانهماكه في مواجهة ما لا يقبل التسويف أو التسرع تلهفاً على “أي حل” في حين أن المصائر لا تعالج تحت ضغط “الإرهاب بالابتزاز” الذي قد يمارسه “القوي” ولا بالتهرب من حمل المسؤولية الثقيل والتسليم بالنتائج القسرية التي قد يفرضها غياب الأصيل.
لكأنه مستعد لتحدي المستحيل دائماً هذا الرجل الهادئ القسمات، الخافت الصوت مع وضوح النبرة، الصافية ضحكته متى استدعتها استعادة لواقعة طريفة.
ماذا تراه يفعل في “أوقات الفراغ” هذا الفارض على نفسه دائماً قهر الصعب بالأصعب وابتداع جبهات للصراع، غير التي تفرضها طبيعة المواجهة عليه، واستخلاص “انتصارات” صغيرة سرعان ما يحولها التراكم إلى نقاط تحول تنقل المعركة إلى حيث هو الأقوى؟!
لا تفسير للحاضر بالحاضر. في الماضي وتجاربه القاسية تكمن الدروس المضيئة للطريق إلى المستقبل. والذاكرة بحر بلا ضفاف، هائلة الحضور، تتدفق منها أمواج الوقائع والأسماء المواقف بدقة مذهلة. لا مجال للخلط بين تعبير وآخر، ولحظة الصمت هي للتثبت من موعد أو من الاسم الكامل للشخص المعني مع فيض من التفاصيل تستحضره إلى هذه الصالة فتكاد تحسن بأنفاسه إلى جانبك!
الحاضر الدائم، والمرجع الثابت حرب تشرين (العبور) 1973 بوقوعاتها الهائلة سياسياً وعسكرياً… ومعها تستحضر التجربة المرة مع أنور السادات ورحلة الانحراف الخطيرة التي حفرت بدماء الشهداء طريق الخطيئة، فبدل أن ندخل القدس محررين دخلها ليكرس الاحتلال، وبدل أن نستعيد سيناء (والجولان) خسرنا مصر التي لا تعوض.
ومع الحرب والسادات يحضر كل صاحب دور، من محمد فوزي إلى أحمد إسماعيل إلى مذكرات الحمصي، ومن هنري كيسنجر ومناوراته الماكرة إلى ريتشارد نيكسون المحاصر حتى في التفاتاته وإيماءاته…
وعبر الحرب ومعها يستحضر كثيرون: عراق أحمد حسن البكر الحسن النية المعطل إلى حد الإقالة بصدام حسين، الذي من بعد سيعطل جهد الأمة وسيتسبب في أكثر من كارثة قومية ستدفع ثمنها أجيال آتية،
ثم يجيء دور الحرب الأهلية في لبنان بكل آثارها وتداعياتها التي لما تنته، وتتهاطل الأسماء والوقائع: للراحل سليمان فرنجية منزلته الخاصة بعد، وللقوى والأحزاب جميعاً تصنيف وتقييم بالتجربة الحسية، وللإمام موسى الصدر تقدير عال لدوره التاريخي الذي أسهم في كسر الحلقة الجهنمية لنظام الامتيازات… أما الشهيد رشيد كرامي فله الأعزام فهو لم يكن كمثله أحد، وعلى كثرة الأصدقاء فهو المميز والممتاز. ويخطر طيف صائب سلام وحرصه، وهو يهاجم “الشيوعية” و”الشيوعيين” على تمييز نفسه عن “اليمين المتحجر”…
أطول الوقفات عند الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 وتداعياته وأخطرها اتفاق الإذعان (17 أيار): مناحيم بيغن، ألكسندر هيغ ثم شولتز، والموفد الأميركي الأول مانسفيلد، فالقوات الأطلسية التي أنزلت في لبنان..
“- .. وجاءني بعض الموفدين، من الغرب طبعاً، يشكون إلى سوء الحالة النفسية لجنود حلف الأطلسي. قالوا أنهم يمضون أيامهم في رعب ولا يستطيعون النوم، ويضطرون إلى تحصين مواقعهم والتلطي خلفها لأنهم يخافون الناس من حولهم.
“سالت الموفدين عن مواقع هؤلاء الجنود فحددوها، وسألتهم: كم تبعد هذه المواقع عن البحر؟! قالوا: بضع مئات من الأمتار. قلت: – الحل بسيط، إذاً، فليقطعوا هذه الأمتار عائدين على البحر، وعندها سيشعرون بأمان كامل!! أضفت وسط دهشتهم: – لقد قطعوا آلاف الكيلومترات لينزلوا في بلاد ليست بلادهم، وهي لا تريدهم، والحل بسيط، فليعودوا من حيث جاؤوا، أو فليبقوا إذا شاؤوا في سفنهم في عرض البحر، ولن يجيئهم الخطر من أية جهة!
ليأذن لي الرئيس حافظ الأسد في أن استشهد بواقعة أخرى:
“- مع موفد ورد على لسانه ذكرنيوجرسي، فقلت له: لقد سمعناكم تتحدثون كثيراً عن هذه المدمرة، عن طول مدافعها وضخامتها والهول الذي تحدثه قذائفها وزنة الواحدة منها ألف كلغ، لقد أثرتهم فضولنا، حتى بتنا متلهفين لمعرفة عظيم تأثير هذه القذائف التي تنطلق من مدفع عرض فوهته ألف ملم. حسناً أيها السادة، إن القذائف تحدث دوياً كالرعد، لكنها بالنتيجة ستسقط على الأرض، وقد تحدث فيها حفرة عميقة. لكن الأرض باقية، لا تذهب بها قذيفة. والأرض أرضنا، أما نيوجرسي فلسوف ترحل، وتبقى أرضنا ونبقى نحن عليها…”.
من أين ينبع كل هذا الوضوح في الرؤية بينما ضباب الغموض والريب يتكاثف فيعزل الأخ عن أخيه، ويفصل الناس عن قضيتهم فارضاً عليهم الخيار القاسي بين يومهم وبين غدهم، فيتنازلون عن المستقبل من دون أن يربحوا الحاضر؟!
من أين تراه يستمد كل هذا الثبات على اليقين، بينما الزلازل ترج الكون وتعمل فيه تبديلاً غير مسبوق وغير محدود، يسقط الإمبراطوريات ويمزق الأوطان ويلغي دولاً ويصطنع أخرى من العدم؟!
يمتد الوقت ولا يتعب من التدفق، ملغياً سلفاً الكثير من الأسئلة التي كانت تشغل بالك وتحرك من النوم،
وتتشعب الاستشهادات وتنفتح الحريطة على مداها، ويعرض للتجربة مع غورباتشوف التي استشعر منها قرب الانهيار المأساوي لدولة عظمى كانت ضرورة لشيء من التوازن،
ويتوالى الموفدون الأميركيون، وتتوالى المواجهات طويلة، قاسية وصارمة في نتائجها: لا تحول ولا تبديل إلا في الأسلوب، من ريغان الذي قرر ذات يوم أن يفتح الحوار، إلى التجربة المميزة مع جورج بوش ووزيره جيمس بيكر ومشروع “مؤتمر السلام”، وموقع هذا المشروع في سياق الجهد المبذول لاستعادة الأرض المحتلة واستخلاص حقوق الفلسطينيين في أرضهم.
ومع الحديث عن جولات بيكر ومناقشاته المطولة يطل شبح دنيس روس ومداخلاته وسائر أعضاء الوفد الذين دمغوه بطابع “يهودي” : ونحن لا نعترض على اليهود كيهود، ولكن وجودهم الثقيل فيه يكشف حقيقة التحولات الجارية في واشنطن والإدارة الأميركية.
ثم يجيء وارن كريستوفر ومعه دائماً دنيس روس ومارتن أنديك وسائر الشلة، ويبهت دور”الغريب” الوحيد في الوفد إدوار دجيرجيان الذي كان رئيساً لروس فغدا مرؤوسه، مع أنه كان مغلول اليدين حتى وهو في المنصب الفخم.
تبهرك الدقة وأنت تسمعه يقول:” – لا نستطيع بعد أن نقيم تقييماً سليماً شخصية وزير الخارجية الأميركية الجديد. لقد التقنياه ثلاث مرات فقط، ولم نعرفه بما يكفي لنحدد موقفاً نطمئن إلى صحته منه!!!
تأخذك المقارنة قسراً إلى بيروت والذين منذ لقاء الدقائق المعصورة عصراً وسط ضباب قنابل الدخان في وزارة الدفاع باليرزة. انطلقوا يتحدثون عن وارن كريستوفر وكأنه رفيق الدراسة، أو نديم ليالي السمر، بل لعل بعضهم قد رفع الكلفة فادعى أنه أنقع هذا الوزير الخطير بما يتناقض مع ما كلف به!
وتأخذك الحسرة وأنت تقارن مرغماً بين ما شهدت وما عرفت من تصرفات المسؤولين في بيروت، وبين ما تسمع في دمشق، عن أسلوب مواجهة اجتياح التدمير والتهجير الإسرائيلي، ومسلسل الاتصالات التي انتهت إلى اتفاق وقف إطلاق النار بكل النتائج السياسية التي ترتبت عليه.
لا أثر للهلع هنا. كانت العقول والخبرات والأعصاب مستنفرة لمواجهة التحدي، مرة أخرى، وحسن القراءة السياسية للمواقف والتطورات بحيث يمكن تحويل النتائج لغير ما يطمح إليه المعتدي وما يريده.
“- لم تكن هناك صفقة. كنا صريحين وواضحين تماماً. لا تفريط بالمقاومة، فهذا حق مطلق لكل المحتلة أرضهم… ونفترض إننا قد انتزعنا إقراراً ضمنياً بحق اللبنانيين في أن يقاوموا لتحرير أرضهم من الاحتلال الإسرائيلي.
“الاتفاق محدد جداً ومحدود جداً: يتوقف العدوان الإسرائيلي فتتوقف صواريخ الكاتيوشا، آخذاً بالاعتبار أن الكاتيوشا استخدمت للرد، ولم تكن هي السبب بل الذريعة، كما حاولوا أن يوهموا العالم. والجنود الإسرائيليون الذين كانوا قتلوا قبل ذلك بأيام إنما قتلوا في مواجهات شنها المقاومون، وليس بصواريخ الكاتيوشا، وفوق الأرض اللبنانية المحتلة وليس داخل الكيان الصهيوني.
“استدفنا من إدراكنا أن الأميركيين قد استهولوا خطر النتائج على مصالحهم، “ومسيرة السلام” مصلحة أميركية، وهي في الوقت نفسه مصلحة لنا… ولقد أبلغناهم موقفنا بوضوح: لن نكمل هذه المسيرة تحت ضغط المدافع الإسرائيلية، بل إن التمادي في العدوان قد يخلق واقعاً جديداً يصعب التحكم بنتائجه، فلن نستمر في ضبط النفس إلى ما لا نهاية، ونحن لا نستطيع أن نغمض عيوننا عما يجري، فما يصيب لبنان يصيبنا، وكنا قد أبلغنا المسؤولين في بيروت ومنذ اللحظة الأولى:
ما عندنا عندكم!
“الصمود سلاح فعال. لعله أقوى من الطائات والمدافع.
“وبالصمود أمكننا أن نحقق إنجازاً طيباً. لكن المهم المحافظة على الإنجاز”!
ولكن، آه من بيروت، أو بالدقة ممن يسوسون الأمور في بيروت، وهل تراهم حافظوا على هذا الإنجاز؟!
ما أكرم حافظ الأسد وهو يتفادى التوغل في حديث الأسى:
“نحن نقدر ظروف الأخوان في لبنان. إنهم يبذلون جهدهم، لكن الوضع صعب جداً. ليس أبأس من الحروب الأهلية، إنها تدمر الإنسان، تشوه جيلاً كاملاً، تنسف سلم القيم وتهدم ما لا بد من سلامته لكي يقوم البناء.
“إن ظروفهم صعبة بالفعل. ونحن نتفهم ظروف الارتباك أو التخوف من نتائج اجتياح بهذه القسوة وهذا الاتساع وهذه الطاقة التدميرية.
“لكن علينا جميعاً أن نحافظ على المقاومة وأن نحميها، وربما كان علينا، في بعض الحالات أن نرشدها، ولكن من أجل أن نزيد فعاليتها. المقاومة هي تجسيد لإرادة الشعب، بل الأمة، في تحرير الأرض المحتلة. وعلى الجميع التخفف من الحساسيات ومن الأوهام، فالعدو هو العدو، والوسيط المتاح ليس حليفنا، بل هو صديق للعدو… وصحيح أن علينا أن نحاول تحييده ما أمكن، ولكن عبر مخاطبة مصالحه المهددة وليس بوهم إننا سنستميله إلى جانبنا.
مع مرور الوقت تحس وأنت تستمع إلى حافظ الأسد، بهدوئه المستفز، إنك تزداد نضجاً وإن إرادتك تتصلب، وإنك بت تمتلك خبرات عظيمة، ويتراجع الشبق الصحافي مخلياً الساحة لشعور عميق بالمسؤولية.
لا يصنع التاريخ إلا الأقوياء.
لا يصنع الدول إلا من يملك قراره ويقبل التحدي مع المستحيل ويصر على قهره.
وحافظ الأسد، بغير ألقاب مفخمة، هو واحد ممن لهم شرف المحاولة المستمرة لقهر المستحيل.
… وهو كثيراً ما نجح، وآخر نجاحاته ذلك الإنجاز الأخير في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي الأخير،
وهو إنجاز باهر تشتد خشيتنا عليه من أن يضيع في غياهب الصراع على استثماره لأغراض شخصية، أو لمحاولة استدراج عروض ممن لا يملك أن يعطي في حين أنه يأخذ دائماً أكثر مما يستحق.
على أن للضمانة، بداية وانتهاء، اسماً واحداً هو: حافظ الاسد.
حمى الله الضمانة.

Exit mobile version