أنتم لا تعرفون زينب،
ولا تعرفون، بالطبع، طفليها عروة ونانا،
فالأيام التي تعيشونها أقسى من أن تدعكم تتذكرون أبناءكم جميعاً فتفتقدون الغائب منهم، وتسألون عن سبب غيابه ومداه.
أم الأطفال فلا مجال لهم، وعليهم أن يكبروا ليصيروا بحجم الرصاصة أو يسقطون سهواً في رحلة الهروب من الغيلان التي تحاول التهام كل ما هو أخضر ومضيء وواعد في المدينة التي حجارتها قنابل وطرقاتها معابر إلى الجحيم.
زينب هي الشياح، هي النبعة، هي حي السلم والليلكي، هي الكرنتينا والمسلخ، هي طرابلس، هي المعلقة والكرك وحوش الأمراء،
وعلى معرفتها بالقراءة والكتابة، وبالناس، وبالسياسة، فإن زينب لم تكن تقدر مطلقاً إن وجودها في الشياح يشكل خرقاً للسيادة واعتداء على الكيان الأزلي السرمدي، وإن الأرزة الخضراء المتوهجة على غلاف بطاقة هويتها هي أرزة أخرى غير تلك التي لها حراس تنتظمهم الميليشيات طوابير مرصوصة ويأتيهم السلاح باخرة أثر باخرة ليتمكنوا من حماية الله والوطن والعائلة،
ولم تكن زينب لتعرف، مطلقاً، إنها هي شخصياً، ومعها عروة ونانا، مصدر التهديد بل الخطر الجدي على الأرزة الشامخة وعلى الله سبحانه وتعالى وعلى الوطن الذي بلا حدود نظراً لعالميته، وعلى العائلة التي لا تضم شجرتها إلا الباشوات والبكوات والمليونيرات وكبار السماسرة والتجار وبعض اللائذين بهؤلاء من مشايخ الجبل الأشم.
زينب كانت مواطنة، بسيطة، عادية المظهر والاهتمامات والثقافة.
كانت، مثلاً، تتصور أن صمودها في الشياح، وفي بيتها بالذات على حافة “خط المواجهة”، أبسط شروط وطنيتها، لأنها لم تكن تقبل إطلاقاً فكرة العداء لعين الرمانة ولمن فيها، ومن فيها جيران وأهل وأصدقاء ومعارف وأخوة في الوطن.
كانت ترى إن موجة العداء عارضة، أتت مع من جيء بهم إلى عين الرمانة ليطلقوا منها النار على الشياح.. وإن هذه الموجة مصيرها إلى انحسار لتستعيد الحياة – بحقائقها الأساسية الثابتة – مسيرتها الأصلية،
وكانت، مثلاً، تعرف من “الفلسطينيين” العدد الكافي للحكم عليهم إنهم ليسوا مغتصبي سيادة ولا جيش احتلال ولا فرقة مسلحة لطائفة من الطوائف. وكانت تأخذ عليهم مغالاتهم في حب لبنان واتخاذه صيغة أولية لهدف نضالهم في أرضهم المغتصبة بعد تحريرها.
وكانت، مثلاً، تعرف عن إسرائيل وعن إنجازات طيرانها الحربي في المخيمات القريبة من منزلها ما يكفي لكي تدرك أي خدمة يؤديها لإسرائيل أولئك الذين يتعامون عنها ليبحلقوا في “التجاوزات الفلسطينية” وليحملوا السلاح – من ثم – ضد المتجاوزين أعداء السيادة.
زينب كانت إنسانة عادية: زوجاً كانت وأماً لطفلين. وكانت لا تريد من غدها إلا أن يوفر لطفليها مستقبلاً أفضل، فيعاملان كمواطنين حقيقيين في وطن حقيقي، عليهما واجبات حقيقية ولهما حقوق حقيقية، ولهما أعداء حقيقيون (كإسرائيل والإمبريالية والرجعية) وحلفاء حقيقيون.
زينب كانت مواطنة عادية.. وصبيحة عيد الاستقلال كانت تشعر بغصة لأن الاستقلال كان غائباً عن الاحتفالات وكذلك الوطن، بينما يقاتل في الشارع عدد من أخوتها المضللين لانتزاع “استقلال” عين الرمانة عن الشياح،
… وحين اقتحمتها رصاصة القناص الكامن خلف جدار عند “المطاحن” لم تفاجأ زينب، ولم تصعق. فقط ماتت بشكل طبيعي.
وهكذا انتصر الله والوطن والعائلة في الكيان الأزلي السرمدي الذي اسمه لبنان.
… لكن لبنان المستقبل سيكون لبنان زينب وعروة ونانا.
وبعد اليوم سيقول كل رفاق زينب وأخوتها ومعارفها وجيرانها: لبنان لنا، بدماء زينب والألوف مثلها فيه.
لبنان لزينب. هل بعد ثمة من يجادل في أنها منه وله وفيه؟
وأعظم ما في لبنان – زينب، لبنان المستقبل، إنه سيكون بسيطاً، طبيعياً، ناصعاً كالحقيقة.