ولادة هذه الفلسطين، لا تكاد تخبو جذوة ثورة لها حتى تتعالى ألسنة اللهب المقدس المبشر بالثورة الجديدة.
لكأن الثورة مهنتها، هذه الفلسطين.
لكأنها دينها الذي تتجمع فيه كل الأديان المعطرة بشذى ترابها أو بشميم ندى الإسراء والمعراج بين مسجدها الأقصى والبيت الحرام!
لكأنه اسم حركي للثورة، أو أن الثورة هي الاسم العائلي والنسب الشريف.
كان رهان قادة الحركة الصهيونية و”روادها” كما عبروا عنه بلسان ديفيد بن غوريون، إن “مشكلة” فلسطين لا تحتاج ولا تنتظر حلاً، ولكنها ستشيخ فتموت موتاً “طبيعياً”.
لكن فلسطين التي بها يبدأ التاريخ لم تشخ، بل هي كانت تتجدد بالثورة، وتنتقل رايات نضالها ضد الظالم والمغتصب من يد جيل هرم إلى يد الجيل الجديد وكأنه على موعد مع الحلم يتقدم إليه مسبوقاً بدمه وبتراث الأجداد الذين لم يفرطوا ولم يوقعوا على صك الاستسلام.
قد تقع الهزيمة، وقد يستتب الأمر للغازي الآتي مدججاً بدعم الغرب كله، سواء أصليبياً كان أم صهيونياً (والفارق شكلي في أي حال).
لكن فلسطين المهزومة تنطوي على نفسها لتصطنع – بزخم أمتها المختزن فيها – جيلاً مقاوماً جديداً، فإذا ما أوهنه الصراع أمدته بجيل ثان يكمل رسالته وجيل ثالث مؤهل بالقدرة على إحراز النصر المبين.
من قال إن زمن الثورات قد انتهى، وإن ليس على المناضلين حملة الأحلام العظام إلا الانصراف والتقوقع في زوايا المقاهي يمضغون ذكريات الخيبة ويتشفون ممن يحاول بعد كلما انتكس به شرف المحاولة فطاش السهم عن هدفه، ويظل يقاتل ضد العجز حتى يحرر ذاته من إغلاله القاسية؟!
من قال إن النظام العالمي الجديد هو قدر لا يرد، وإن تاريخ النضال الإنساني من أجل العدل والحق والخير واجلمال والتقدم قد دفن في المزابل، وإن أعلام الثورات المضرجة بالأحلام القانية كما الشهداء قد صارت قمصاناً وسراويل للمراهقين وإن شعاراتها تنتثر على أرصفة الشوارع، كأوراق الخريف، تنتظر من يكنسها ليبدأ العصر الأميركي (الإسرائيلي) نظيفاً من شوائب ما سبقه؟!
بالخنجرين شق “زياد” طريقه إلى أحلامه، يوم أمس في تل أبيب. وبالخنجرين طعن كل من حاول أن يختطف منه حقه في الحلم، حقه في أرضه، حقه في الحياة.
لقد قرر أن يرفض عبوديتخ، وأن يحسم الأمر مع قاهره ومستعبده، وأن يستعيد إحساسه المصادر بإنسانيته كما بمواطنيته وانتمائه القومي.
إنه يساق كل يوم، من ضمن عشرات الألوف الآخرين، مدفوعاً بدل الجوع والعوز وافتقاد النصير، لكي يبني فيزيد في قوة عدوه، في حين يتراجع هو – وكل شعبه – ليغرق في لجة النسيان والموت اندثاراً!
إنهم يسحبونه، بسحر الرغيف، من “غزه” المحتلة إلى يافا وحيفا ونهاريا وتل أبيب وسائر البقاع التي احتلت قبل “غزة”، لكي يعتصروا جهده ونسغ الحياة في شرايينه… كأنه يعطيهم دمه مقابل اللقمة البائسة، فيحيون ويموت.
كيف تنتهي الثورات والظلم يفرد جناحيه ليغطي بالسواد نور الشمس، ويقفل منابع الأمل ومصدر الهواء وشذى عطر الليمون؟!
إن الإنسان يعيش أفظع حالة ظلم عرفها عبر تاريخه الطويل، وعلى مدى الكون… فكيف إذا لا يتفجر الغضب المقدس ثورات تستولد الأمن والضياء والحلم وتعيد للإنسان اعتباره؟!
ويحدثونك عن “حقوق الغنسان”!
ما أفصح النظام العالمي الجديد والمهيمن الأوحد على الكون حين يتحدث عن الإنسان وحقوقه!
ما أفصح قاهر الشعوب حين يتحدث عن حرية الفرد.
الفرد، خارج الأرض وخارج الزمن. خارج الجغرافيا والتاريخ، خارج الانتماء، خارج إنسانيته.
لم يستطع “زياد” أن يقابل وارن كريستوفر.
ولم يكن وارن كريستوفر معنياً بأن يقابل “زياد”.
كريستوفر يفضل أن يلتقي “العقلاءط الذين أمدّتهم الشيخوخة بالحكمة والرصانة وعلمتهم التجارب أن “العين لا تقاوم المخرز”! وأن ما أخذ بالقوة يمكن أن يستعاد بالتفريط والتكتكة والبراعة اللفظية التي تحاول أن تغطي بدوي الكلمات المجلجلة النبرات دوي السقوط العظيم!
وكريستوفر لم يكتشف غزة، ولا رفح، ولا رام الله، ولا نابلس، ولا طولكرم، ولا الخليل… بل إنه لم يعرف من القدس إلا الواجهة الصهيونية التي تحاول أن تربط بين قوة الأمر الواقع وبين الخرافة المموهة بالقدسية الدينية.
كريستوفر لم يكتشف “زياد” غزة، ولم يكتشف معنى أن يستعبد شعب بكامله، ثم يسخر لاصطناع أسباب تفوق عدوه وغاصب أرضه وحقوقه جميعاً عليه.
وكريستوفر لم يكتشف العقاب الجماعي الذي تنزله إسرائيل بالفلسطينيين عموماً إذا ما صرخ أحدهم متوجعاً وحاول أن يمسح بدمه آثار الظلم!
أما الناطق الرسمي الفرنسي فقد “اكتشف” أن “لا شيء يمكن أن يبرر مثل عمل زياد… فقتل المدنيين جريمة لا غفران لها”!
كان “زياد” غزه هو “جيش الدفاع الإسرائيلي”.
… أو كان المقتلعين من أرضهم، والمرميين في عراء الضمير العالمي وصقيع التخلي أو العجز العربي، في “مرج الزهور” هم جند حملة صليبية جديدة جاءت من الخرافة لتستولي على فلسطين الألمان والبولونيين والخزرج والفلاشا إلخ.
ربيع الحياة هي الثورة. لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد.
وإلا فمن أين تجيئنا الأحلام، ومن أين تأتينا الرهافة والرقة والصلابة والإرادة الأقوى من “عاصفة الصحراء” و”بنادرة العرب”، لتجعلنا بشراً سوياً؟!
“زياد غزه”، مثل أقرانه، بشارة الثورة الجديدة في العالم الجديد!