يبروت الثكلى تبدت، أمس، كأعظم ما تكون “الثغور” وهي تواجه حملات الحصار والإبادة المنظمة.
فأميرة الحزن هي هي أميرة الصمود والكبرياء والحب لاسيما وإن في الوجدان دائماً حلم الوطن،
ولقد رافقها هم الوطن وقلقها على مصيره وهي تشيع مواكب شهدائها شاحبة الوجه، مقرحة الجفون، مجرحة الصوت، والقلب مسكون بالحزن اليعقوبي، لأن هؤلاء الشهداء سقطوا في غير ساحة الجهاد الأصلية، وبأيد تنفذ إرادة العدو وأهدافه ولكنها مموهة بالأرزة مطوقة ومرتهنة ومأسورة.
وكان من الطبيعي أن تستذكر بيروت وهي تشيع ضحايا مجزرة “الاثنين الإسرائيلي” ، الواقع في 11 حزيران 1984، موعدين حزيرانيين آخرين لكل منهما دلالته المكملة لدلالة الآخر، بقدر ما إن الأيام الحزيرانية الثلاثة تنتظم في سياق واحد ومحدد تماماً:
*فيوم 9 حزيران 1982 هي في ذاكرة بيروت واللبنانيين بل والعرب عموماً، إذ هو يشكل محطة مضيئة في الذاكرة العربية وفي مسار الصراع العربي – الإسرائيلي.
في ذلك اليوم الأغر، ومع وصول قوات الغزو الإسرائيلي إلى بوابة بيروت، عند خلدة، أثبتت كوكبة من المقاتلين، جلهم متطوع ومدفوع بإيمانه بعدالة قضيته وبقوة الشعور الوطني وحقه في الحياة، إن “الإسرائيلي” قابل للقتل والانكسار والهزيمة، وإن دباباته “الأسطورية” يمكن أن تؤخذ منه، وإن التفوق التكنولوجي يبطل مفعوله السحري في مواجهة إرادة القتال والتمسك بالأرض.
*ويوم 13 حزيران 1978 حي في ذاكرة بيروت واللبنانيين عموماً، إذ يشكل نقطة تحول في مسار الحرب الأهلية، تؤكد – في جملة ما تؤكده – إن الحرب في جانب منها “أهلية” وإن جيّرت النتائج لمصلحة العدو الإسرائيلي، وتؤكد أيضاً التلازم بين التوجه إلى العدو والسعي إلى الهيمنة على البلاد، وشطب القوى والتيارات والشخصيات السياسية التي ترى رأياً آخر.
فاغتيال طوني سليمان فرنجية لم يكن جريمة سياسية عادية، بل كان محاولة لإرهاب المعادين للتقسيم والرافضين للخيار الإسرائيلي والواعين لحقيقة انتماء لبنان العربي ومسؤوليات هذا الانتماء، لاسيما بالنسبة للمسيحيين من أبنائه.
ولقد رأى أهل بيروت ملامح مشتركة في هذه الأيام الحزيرانية الثلاثة:
فحين كانت تلك الكوكبة من فتية لبنان الغر، ومعها بعض أشقائها العرب، تقاتل جنود العدو وآلته العسكرية، وبينما كانت بيروت وضاحيتها تعيشان في جحيم القصف المدمر، كان أولئك الذين ساهموا في اغتيال طوني فرنجية وأسرته، يكملون مهمة العدو في الضغط على بيروت لتركيعها وفرض الاستسلام عليها، فيشددون الحصار عند مداخلها، ويصادرون كل مادة تموينية، ويمنعون وصول الماء إلى مواطنيهم المحاصرين بالظلمة والجوع والعطش وقهر الغزاة.
لقد افترض الكتائبيون – بتفرعاتهم والأصول العائلية – أن يومهم قد حان ليملكوا البلاد ورقاب العباد، وإن التحالف مع العدو يوصلهم إلى حيث لم توصلهم الإرادة الشعبية، وهكذا اندفعوا يقومون بكل “المهام القذرة” التي لم يشأ العدو أن يوسخ بها أياديه المغطاة بدمائنا، وصولاً إلى مجزرة صبرا وشاتيلا وإلى ترويع بيروت وأهلها، لتستسلم صاغرة لقدرها الإسرائيلي وما يقرره لمستقبلها ومصيرها.
أميرة الحزن هي لكنها أصلاً أميرة الصمود، بل أميرة الصمودين: للعدو الإسرائيلي المحاصر فالمقتحم والمحتل، وللمهيمن المتسلط اللاغي البلاد بشخصه وأدواته من المرتكبين والسماسرة والعملاء.
فبيروت تعرف جيداً إن سياسة الهيمنة قد كلفتها من أرواح أبنائها ومن ممتلكاتها ومن سماتها الحضارية وتراثها الثقافي، أكثر بكثير مما كلفها الاجتياح الإسرائيلي… وهذا أمر يزيد من حزنها، فممارس سياسة الهيمنة هو، في النهاية، من أبنائها، برغم ضلاله، وخطاياه وأخطائه القاتلة،
وبيروت الصمود لو قدر لها أن تتقدم بشكوى ضد الذين حاولوا ويحاولون اغتيالها، مستشهدة بالوقائع المفجعة والعديدة والتي تشكل مجزرة “الاثنين الإسرائيلي” مجرد نموذج لها، لحددت اسم الجانب وهويته الكاملة على الشكل الآتي: الطامع في الهيمنة، واحتكار السلطة، المتسبب في نحر الدولة ومؤسساتها، والجيش أولاً، والمقاتل لمصلحة العدو بما يهدد وحدة التراب الوطني وسلامته.
لقد تعرضت بيروت في ظل هذا الحكم القائم لاذلال لم تعرف مثيلاً له عبر تاريخها الطويل.
فباسم هذا الحكم وبأوامره اقتحمها جيش الحكم مرة ومرتين وثلاثا، ودكها ألف مرة وما يزال يدكها حتى اليوم، ملحقاً بها من الخسائر أكثر مما ألحق بها اجتياح العدو الإسرائيلي، إضافة إلى أنه دمر ضاحيتها الجنوبية وشرد أهلها كما شرد أهل رأس النبع واضطرهم إلى الالتجاء إلى ما تبقى من أحيائها والتكدس في ما تبقى من بيوتها وعماراتها التي كانت كما العرائس!
وباسم هذا الحكم وفي ظله فقدت بيروت، درة الأرض العريبة والشرق، الكثير من العناوين مجدها وفخارها، فلم تعد الجامعة لطالب العلم، والكتاب والصحيفة والمطبعة لطالب الثقافة أو ناشرها، ولم تعد الأغنية واللحن الشجي، ولم تعد المنتدى وملتقى المختلفين الراغبين في حل خلافاتهم بالحوار وعبره، ولم تعد واحة الديموقراطية وحرية الرأي والمعتقد، ولم تعد المستشفى والطبيب لطالب العلاج والصحة،
لقد أساءت إليها الحرب الأهلية و”حروب الآخرين على أرضنا” كما يحب البعض أن يقولوا، لكن التشويه الحقيقي أو الضربة القاضية جاءها من هذا الحكم وعلى دييه وبمدافع قواته سواء أكانت ميليشيات الكتائب أم الميليشيات الأخرى المسماة جيشاً والخندقة في خطوط التماس والمعطلة الحياة في ربع بيروت أو ثلثها أو ربما في نصفها تماماً،
ففي ظل هذا الحكم وبفضل المغامرات العسكرية الحمقاء والتعديات اليومية على الناس في معتقداتهم السياسية والفكرية والدينية، صارت لبيروت صورة “الأرض المحروقة” والمدينة المستباحة، فلم يعد لأي مكان حرمة ولم يعد لأي مقام احترامه الواجب.
وفي ظل هذا الحكم توبعت سياسة تفريغ بيروت من مؤسسات الدولة ورموز وجودها، وما كان قد برر انتقاله بدواع أمنية ولفترة مؤقتة، وجد في نتائج ممارسات الهيمنة ذريعة للبقاء خارج بيروت والانتقال منها نهائياً.
ويمكن أن نعدد في هذا المجال عشرات المؤسسات والإدارات إضافة إلى بعض الوزارات، وبينها على سبيل المثال لا الحصر: وزارة الاسكان والتعاونيات، مصرف الاسكان ، جمعية مصارف لبنان، وزارة البريد والاتصالات، المجلس الوطني للعلاقات الاقتصادية الخارجية، وزارة الاقتصاد (وقد سحبها فكتور قصير إلى مقر وزارة الصناعة والنفط)، مجلس إدارة مرفأ بيروت الذي يمارس أعماله حالياً في المرافئ غير الشرعية (ضبية وأكوا مارينا إضافة إلى جونيه)، الإدارة المركزية للجامعة اللبنانية الخ.
وفي ظل هذا الحكم شجعت السفارات الأجنبية والعربية على نقل مقارها من بيروت إلى أي مكان آخر، وبين أواخر الأمثلة السفارة الأميركية وقبلها الفرنسية.
وفي ظل هذا الحكم وقصف القوات التي يفترض إنه يمثلها (الكتائب وما تفرع عنها) أو يقودها (الجيش) تم تحريض الجامعة الأميركية والعديد من المؤسسات الاقتصادية والشركات التجارية والمصارف على نقل مكاتبها الرئيسية إلى حيث “الغيتو” الذي يريدون قبر بيروت (ولبنان) فيه.
وأخيراً، في ظل هذا الحكم تجرأ على وحدة بيروت ومصيرها من لا يملك زمام مصيره، فادي أفرام مجهول باقي الهوية، فقرر إنها ستظل مقسمة، وإن خطوط التماس وجدت لتبقى وهذا معناه إلغاء بيروت.
أميرة الحزن هي هي أميرة الصمود،
أميرة الحزن هي هي الباقية.
وستظل بيروت أقوى من الموت والقتلة والمحاصرين غزاة كانوا أم طامعين بالهيمنة واحتكار السلطة.
وستنهض الأميرة مع الصباح، وقد استعادت ابتسامتها المشعة، فتسرح شعرها الطويل، وتشكل فيه قرنفلة، وستسقي أصص الورد على الشرفة، وستفتح النوافذ للهواء والشمس والأمل، وسينتشر عطرها في الأرجاء جميعاً، دعوة إلى الحب والحياة.
فبيروت باقية والهيمنة إلى زوال مثلها مثل الاحتلال الذي قاومته بحسها الحضاري المرهف، بكونها السيف والأغنية والوردة، المكتبة والجامعة والمستشفى وصحيفة الصباح والكلمة والمنطلقة إلى أربع رياح الأرض تبشر بالحرية وبالغد الأفضل.