في حين كان شعب لبنان يعيش أحزان الذكرى السنوية الأولى للاجتياح الإسرائيلي، كان الإسرائيليون المنتصرون – أيما انتصار – يعيشون اضطراباً سياسياً خطيراً قد ينسف حكومة “صقور الصقور” بينما أبناء المجندين منهم يطلقون على لبنان اسم “وادي الدموع”.
“ووادي الدموع” يتسع كل يوم، بل كل ساعة، وهو يلتهم مزيداً من جنود الاحتلال الإسرائيلي.
إنه الآن يغطي ، تقريباً، كل “منطقة الترتيبات الأمنية” التي اقطعها “الاتفاق” للمحتل، فمن غاليري سمعان إلى العباسية وضواحي صور، ومن ضهر الوحش إلى سحمر والقرعون وكامد اللوز، وراشيا الصمود، ومن عين زحلتا وما جاورها من الشوف إلى وادي الزينة وما حولها من إقليم الخروب وصولاً إلى صيدا العائدة إلى نفسها وتاريخها، فإلى الغازية التي حاول المحتل (ومن معه) أن يقسم أهلها بالفتنة فاستعادوا وحدتهم لاطبيعية ليواجهوه ذراعاً ضاربة واحدة.
ومن المفارقات ذات الدلالة أن يكون الاجتياح قد ذهب ببطله شارون، وأن يكون “الاتفاق” الذي انتزع بالقهر يهدد مصير بيغن السياسي شخصياً، على رغم تاريخه الإسرائيلي الحافل،
للمناسبة: في لبنان، أكثر مما في أي مكان آخر، تكشفت أسطورة عبقرية شارون وثبت الآن بالقطع أن تواطؤ السادات – كيسنجر هو الذي صنع بطولة شارون عبر “الثغرة” الشهيرة في الدفرسوار، فحيثما يقاتل المقاتلون يستحيل النصر على “أرييل” العجيب، أما حيث ينسحبون أو يهربون فما أمر الهزيمة!!
هذا يقود إلى الحديث، مرة أخرى، عن الوضع العربي، المشين وعجزه الفاضح، بل التخاذل المستشري في أوصاله…
فإذا كانت كوكبة من شباب الجنة قد استطاعت بوسائل محدودة، وبرغم كل الصعاب، أن تفعل مثل هذا الفعل العظيم الأثر على إسرائيل في الداخل، وعلى معنويات عسكر احتلالها في لبنان، فتصوروا ما شاء لكم التصور ماذا كان يحدث لو إن الكوكبة صارت سرايا وكتائب والوية، ولو إن الرصاص طال كل جندي وكل “مستوطن” إسرائيلي حيث هو.
صحيح إن هذه الكوكبة من الفتية الغر الميامين يعبرون ، بضرباتهم وبإرادة القتال التي تعمر صدورهم، عن روح شعبهم والأمة المجيدة، التي يتشرفون بالانتساب إليها، ولكن ماذا عن الباقين، عن ملايين، الملايين المعطلة قدراتهم المشلولة زنودهم المكممة أفواههم، المخرسة أسلحتهم (إلا حين يتهدد الخطر الزعيم أو القبيلة أو العائلة أو النظام)؟!
ثم ماذا عن بعض الأجهزة وبعض الفئات في لبنان؟!
ألم تساعدهم روح البطولة الحقة والاستشهاد في الزمان الصحيح وفي الموقع الصحيح وبمواجهة العدو الذي لا عدو غيره، على التطهر من أحقادهم وموبقات التعصب والالتزام بآداب نفاق الأقوى ومداهنته إلى حد المزايدة عليه واحتقار شعبهم وأمتهم والأرض التي تحمل وطأتهم على ظهرها؟!
أيجوز أن تصور البطولة في مواجهة جيش الاحتلال “اعتداء”؟!
أيجوز أن تتحرك بعض الأجهزة لدهم من يظن بأن لهم علاقة بالعمليات الشجاعة ضد قوى القهر والاحتلال، مكملة بذلك ما تقوم به القوات الإسرائيلية ذاتها من عمليات اعتقال بالجملة واضطهاد وإذلال للمواطنين في مختلف المناطق والجهات؟!
وإذا كان الإسرائيلي يتصرف بوصفه عدواً، انطلاقاً من أن كل من حوله معاد له بالضرورة أو بالطبيعة فيخبط خبط عشواء ويقتاد العشرات والمئات من المواطنين إلى مراكز التوقيف ومعسكرات الاعتقال، فلماذا يتصرف البعض منا انطلاقاً من الفرضية نفسها، وهو “السوبر مواطن” أو المكلف “بتصنيف” المواطنين وتحديدهم؟!
لماذا يرتكب أمثال هؤلاء مثل هذه الجرائم وبهذه الطريقة المؤذية لكرامة بلادهم، في حين نعرف جميعاً إن العمليات الفدائية ضد جيش الاحتلال إن هي لم تؤد إلى إخراجه فإنها – بالقطع – تفيد في تسريع عملية إجلائه عن التراب الوطني؟!
ولماذا عتبار “الاتفاق” وكأنه قدس الأقداس الذي لا يمس في حين نعرف جميعاً أن أحداً في لبنان، وبالذات في قمة الحكم، لن يذرف دمعة واحدة على الاتفاق إذا هو سقط من دون أن يؤثر سقوطه على إخراج المحتل الإسرائيلي؟
ولماذا يركز هؤلاء في هجومهم المضاد على معارضي الاتفاق على موضوع الديموقراطية والحريات العامة، وحرية الصحافة على وجه الخصوص، في حين إن ما هو متاح من هامش حرية للصحافة هو أعظم شهادة يملكها هذا الحكم بوصفها التجسيد الحي لتوافق اللبنانيين عليه وعلى شعاراته المعلنة: إعادة توحيد البلاد على قاعدة تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي وتنظيم وتقنين علاقاتها مع محيطها العربي عبر تأكيد انتمائه الحكيم والأكيد والدائم إليه؟!
إنها معركة متعددة الأبعاد،
وكل يخوضها بسلاحه، وفي موقعه،
وهي “معركة كل العرب” ، وستظل مفروضة عليهم مهما حاولت أنظمتهم وقواهم السياسية المنظمة (أو معظمها) أن تهرب منها،
وأفضل بالتأكيد أن يبادروا إلى ساحتها قبل أن تجيئهم إلى قصورهم والمكاتب المكيفة وكواليس المناورات والتكتكات السياسية العابثة والعبثية.
والميدان فسيح، يتسح لكل مقاتل أو راغب في القتال أو مشارك فيه ولو بأضعف الإيمان،
فهلا يقرر “الآخرون” أن يكون لبنان فعلاً وادي الدموع للإسرائيليين بدل أن يظل، كما بقية الأقطار، وادي الدموع العربية؟!
والجواب يأتي مع الدوي ومع ذلك الشهب المقدس المتجه على صدر غاز وطامع ومحتل يفرض وجوده وإرادته على مصيرنا برمته،
ولبنان، ومعه كل العرب، في الانتظار.