بين “اتفاق القاهرة” مع لبنان، في خريف 1969، و”اتفاق القاهرة” مع العدو الإسرائيلي في العاشر من شباط 1994، تغير الكون كله، وتغيرت الظروف والمعطيات جميعاً، ولم يبق من ذلك الحال وشهود الحال إلا صاحب التوقيع على الاتفاقين: ياسر عرفات، والبديل من الغرب جميعاً، إسرائيل.
لقد وقع عرفات على وثيقة الولادة، وها هو الآن ينجز بكفاءة عز نظيرها التوقيع على وثيقة الوفاة.
لا لبنان بقي لبنان، وما بقي منه مختلف جداً عما كان، وبعض الفضل في التحول يرجع إليه شخصياً وإلى أسلوبه في إدارة الثورة و”الحكم” وصولاً إلى المفاوضات،
ولا فلسطين بقيت في الحكم كما في العمل فلسطين، ولا بقي من الثورة غير الشعار المفرغ الآن من مضمونه،
ولا القاهرة بقيت هي القاهرة، ومن بقي فيها يكاد ينكر صلة الرحم من من كان،
صحيح أن المكان هو المكان، لكن الماء ليس كالدم، ولا الحكم الذاتي كالثورة، ولا بين التحرير والصلح المنفرد صلة قربى،
ثم أن الاتفاق الأول كان محاولة لفتح كوة في الجدار الإسرائيلي، عبر لبنان، أمام الفدائي الداخل براية التحرير إلى فلسطين، بينما الاتفاق الثاني يفتح الباب على مصراعيه أمام إسرائيل لكي تنتشر على امتداد الأرض العربية كقوة احتلال عسكري وغزو اقتصادي وهيمنة سياسية.
ولعل اللبنانيين هم أكثر العرب حزناً وخسارة بالاتفاق الدديد،
لعلهم اليوم يحسون، أكثر مما أحسوا في أي يوم سابق، إنهم خذلوا، وإنهم خدعوا، وإنهم استخدموا مطية لأغراض رخيصة لا تستأهل ما بذلوه وما تحملوه من تضحيات، جنباً إلى جنب مع إخوانهم الفلسطينيين، وسائر المؤمنين من العرب بقضية التحرير كطريق إلى الوحدة والعزة والتقدم.
كانوا يفترضون أنهم إنما يعطون فلسطين وشعبها وقضيتها قضية الأمة، فإذا بالشخص يضيع ذلك كله من أجل مرتبة مختار على أريحا،
ولعلهم في الفجيعة شركاء مرة أخرى للفلسطيني الباقي في الشتات، وللفلسطيني الممنوع من إظهار فلسطينيته في “الداخل” الإسرائيلي، كما للفلسطيني المدفوع لأن يتنكر في هويته الأردنية المستحدثة، أو المضطر لأن يرضى بالتوطين حيث هو إن لم يطلبه ويلح في طلبه حفظاً لحقه في مأوى بأي شرط…
بل لعلهم شركاء فلسطين وثورتها وشهدائها الميامين الذين سفح التوقيع دماءهم مرتين ومعهم وحدة النضال القومي والتضامن العربي إضافة إلى الاستقلال الوطني.
وللبنانيين، ومعهم الآن السوريون، سبب إضافي للخوف من آثار التوقيع الثاني على الاتفاق الإسرائيلي الجديد: فعرفات يعطي، مرة أخرى، من رصيد العرب جميعاً، وبالذات من رصيد لبنان وسوريا (والأردن)، ويقدم لإسرائيل سيفاً إضافياً لتقابل به العرب في المفاوضات المفتوحة (على المجهول) في واشنطن.
إنه اتفاق – سابقة،
وهو لم يعط إسرائيل ما تتمناه في فلسطين فحسب، على حد ما قال إسحق رابين، ولكنه أعطاها ما لا يحق له أن يعطيها في لبنان وسوريا.
لقد يسر لإسرائيل أن تحدد باتفاقه الساقط سقف ما يمكن أن تعطيه للمفاوض العربي المحتلة أرضه.
غداً سيقول المفاوض الإسرائيلي لسائر المحتلة أرضهم: “هل أنتم أكثر تشدداً من صاحب القضية؟! لقد ارتضى الفلسطيني ذاته هذا الاتفاق لمعادلة الأرض مقابل السلام، وهو صاحب الأرض الأصلية، وما أصابكم أنتم مجرد نتائج، فهل تكونون أكثر منه تشدداً وهو المحتلة أرضه جميعاً. بينما المحتل من أرضكم هو بضعه مئات من الكيلومترات المربعة لا أكثر”؟!
الأمن الإسرائيلي يحدد مفهوم “السلام”،
والأرض لازمة لتوطيد الأمن، وبعدها يمكن الحديث عن “السلام”،
فإذا حسمت دواعي الأمن، في الأرض كما في السياسة، وفي المعسكر بطبيعة الحال، فإن ما تبقى لا يمكن أن يتسق مع “السلام”، ولا يتسع للمقايضة العتيدة!
لقد دخل عرفات (والثورة الفلسطينية) لبنان بقوة العروبة فيه وليس بقوة تلك الحفنة من البنادق مع أولئك الفتية الغر الذين رحمهم قدرهم فغابوا قبل أن يروا ما حملوا السلاح ضده وحتى لا يكون.
كذلك فهو قد دخل بقوة العروبة في الأرض العربية وقد كانت قاهرة جمال عبد الناصر عاصمتها وقائدة ركب التحرر والتحرير.
وها هو عرفات الآن أضعف من أن يدخل فلسطين، ولكنه “قوي” بالإسرائيلي، على العرب، يهددهم به في أقطارهم وعواصمتها ومواردها جميعاً.
ولسوف يكون ياسر عرفات شرطي غدا على المعبر إلى فلسطين، ولكن لتنظيم الاجتياح الإسرائيلي، الجديد للأرض العربية بواجهة فلسطينية تحمل ملامح كل العرب الذين حملوا فلسطين في قلوبهم وأعطوها أعمارهم وثروتهم وأحلامهم واستقلالات كياناتهم.
والندم ليس على ما أعطي، ولكن على أن يكون من أخذ قد أساء الأمانة فارتد على أهله جميعاً داخل فلسطين وخارجها، وتحول من فدائي من أجل فلسطين إلى طابور خامس يستفيد منه العدو ويسخره لأغراضه، بغض النظر عن النوايا.
وقديماً قيل أن جهنم مبلطة بأصحاب النوايا الحسنة…